"شريد المنازل" حكاية من الوجع اللبناني
هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها عن الحرب الأهلية في لبنان، بعين الأديب أو لنقل بعين إنسان، بعيداً عن سرديات الصحافة الجافة، وكتب كثيرة وثقت هذه الحقبة المؤلمة بشكل متناقض على طريقة "كلٌ يرى بالعين التي تعجبه ويكتب بما يشتهي".
"شريد المنازل" رواية لبنانية للرائع، جبور الدويهي، أهداها لي صديقي القادم من بيروت. ومع الأسف، تأخرت بقراءتها عدة أشهر حتى حان دورها. استغرقت مني أسبوعاً كاملاً، أقرأ منها كل ليلة ساعة أو أقل وفي يوم أإجازتي نهاية الأسبوع أكملتها، وليتني لم أفعل.
لم تكن رواية عادية، بصراحة، وثقت هذه الرواية فصلاً محزناً عند اللبنانيين، فعرفت من خلالها بعض حارات بيروت القديمة ومناطقها، تعرفت على طيبة سكانها مسيحيين ومسلمين بمختلف ألوانهم وهم كلهم ضحايا، واقتربت من رائحة قهوة رخيمة الإنسانة وزوجها الطيب توما وتحسست برجلي حفر حيوان الخلد التي يحفرها بين حين وآخر في بستانهما.
ترسخت قناعتي السابقة بأشياء كثيرة منها سأحتفظ بها لنفسي هذه المرة كي لا يساء فهمي.
وبهذه الرواية أيضًا اكتشفت أن زعماء الحرب لا يختلفون في لبنان كانوا أم في العراق في سورية أو حتى ألمانيا .... هكذا ثمة صفات مشتركة بينهم أينما ظهروا.
وعرفت أيضاً أن "الرفاق" أصحاب الشعارات الذين كانوا يتجمعون في منزل المنارة ببيروت عند نظام يتشابهون، نعم والله لا فوارق جوهرية بينهم، تركوا بيروت كما تركها الرفاق في بغداد مع أول زخة رصاص حيث غادر أغلبهم بيروت وانتهى الصراخ بمنازل الفقراء.
أهل بيروت كما هم أهل بغداد تماماً ضحايا ليس إلا. وما زالوا ضحايا شعارات فارغة المحتوى. شعارات وأحلام ليس إلا بلا عمل. صورة الرفيق المعلقة على مبنى تقيم فيه شقيقة نظام في بيروت، ويبدو فيها متحدثاً بالهاتف تشبه صورة الرفيق الذي كان لدينا في بغداد... لا اختلاف.
رفول الطيب بشخصيته البسيطة صاحب الأوتيل تشبه صورة جورج صاحب فندق دجلة في أبو نؤاس الذي كنت أختفي عنده إذا ساءت الأمور ببغداد وغابت الشمس فأعجز عن العودة للمنزل أيام الفتنة الطائفية 2006. لكن جورج الذي قتل فيما بعد بسبب 100 دولار في جيبه لم يكن مسيحياً ولا مسلماً ولا يمكن تصنيفه في أي فكر ومعتقد، كان عندما يسأل يقول "عمي من الآخر أنا إنسان"، ويسكت، عادة ما كان يلمزني بعبارة الصحافي مع ابتسامة ما زلت أذكرها. ويريد بذلك أن وضع العراق الحالي لن تفيده بضعة سطور تنشر في صحيفة يتغير لونها على الرصيف بسبب الشمس ثم لا تباع. صدق جورج الذي مات وهو يتمنى أن يرى ابنته التي هاجرت للسويد.
قال لي مرة متفاخرًا بحديثه عن ابنته (طالعه على أبوها الملعونة ما تخاف من شي اليوم تقلي إذا ما جيتني أنا راح أرجع لبغداد)، كان يقولها منتشياً بفرح غامر. وكأنه ارتاح أن هناك من ما زال يهتم لأمره.
بالنهاية كنت سأكون مثل بطل شريد المنازل "نظام" لو لم أخرج من العراق. لعل ما جذبني للقصة هو وجود تشابه بيني وبين نظام، خاصة عندما يرمي الكلام ولا يبالي به وأرى أن هذا كان سبب موته بالنهاية.
في الرواية رسائل بين السطور لمن يفهم تمكن ملاحظتها من أولى صفحاتها وحتى آخرها الذي انتهى بطريقة دفن نظام ومكان قبره.
الدويهي أوصل تاريخ هذه الحقبة بطريقته كإنسان فقط لا أكثر. بصراحة تامة "شريد المنازل" وثيقة إنسانية وليست رواية فحسب، ونصحت أغلب من أعرفهم من العراقيين المتشنّجين والمتحمسين والعدائيين بأن يقرأوها.