خلال الأعوام الأربعة الماضية، أُنجزت ثلاثة أفلام ألّفها الكاتب والصحافي المصري إبراهيم عيسى، الشهير منذ منتصف تسعينيات القرن الـ20 بآرائه الصاخبة والصادمة، المتعلّقة بالسياسة والدين.
ولأنّ الوضع المصري الراهن لا يسمح بأيّ رأي سياسي صاخب وصادم، دخل عيسى إلى السينما من بوّابة قضايا دينية خلافية. هذا لا مشكلة فيه بحدّ ذاته، باستثناءِ أمرٍ واحد: يُقدِّم عيسى نفسه مُفكِّراً لا سيناريست، ويكتب حوارات ومَشاهد كأنّه يكتب مقالة أسبوعية في صحيفة، لا حديثاً بين أناسٍ.
فيلمه الأول "مولانا" (2016)، لمجدي أحمد علي، مُقتبسٌ من رواية له بالعنوان نفسه، وضع فيها بطله الشيخ وسط قضايا جدلية عدّة، للتعبير عن مواقف المؤلّف إزاءها. "الضيف" (2019)، لهادي الباجوري، ثاني فيلمٍ له، جاعلاً من يحيى التيجاني نسخة منه في كلّ شيء. ينتقل الفيلم الحواريّ من موضوع جدليّ إلى موضوع جدليّ آخر، في نقاش بين البطل/عيسى والضيف/ الإرهابي المتشدّد، كأنّه حلقة/ مناظرة تلفزيونية.
هذه المقدّمة ضرورية لقراءة فيلمه الثالث، "صاحب المقام" (2020)، الذي بدأت عروضه أخيراً على منصّة "شاهد"، وفي صالات سينمائية مصرية. فيلمٌ يحمل منظور فيلميه السابقين ومشاكلهما. فـ"القضية" التي يتناولها الفيلم، بدءاً من عنوانه، مرتبطة بالأضرحة وتضرّع الفقراء لأولياء الله الصالحين أو لآل البيت، وفقاً للمنظور الصوفي للإسلام.
يختار عيسى قالباً قصصياً مثيراً للانتباه، لعلّه الميزة الأبرز في الفيلم: رجل الأعمال يحيى حسين الرمالي (آسر ياسين)، يهدم مقام الوليّ سيدي الهلالي لتشييد مجمّع سكني ضخم. لكنّ أموره تسوء بعد الهدم، عملياً وإنسانياً، ويبدأ تصديق أنّ لهذا علاقة بهدم المقام، فيُقرّر أنّ الطريقة الوحيدة للتكفير عن ذنبه تكمن في أخذ رسائل أناسٍ عديدين يُرسلونها إلى الإمام الشافعي بتركها عند مقامه، ويُنفِّذ ما فيها من أمنيات. رسائل عدّة تكشف له قصصاً مختلفة.
قالب المهمّات، رغم كونه مَطروقاً ومُعتاداً في مسلسلات وأفلام مصرية وأجنبية، لا يفقد جاذبيته. والمهمّ هنا الإشارة إلى ذكاء استخدامه، علماً أنّ فكرة تحويل البطل إلى رسولٍ للإمام الشافعي (كما يُقال في الفيلم)، تمثّل قراراً سردياً وقصصياً موفّقاً جداً. لكن الأمر يتوقّف تماماً عند تلك الفكرة الذكية، فالفيلم لا يستغلّها بأي شكل.
أولاً، الحكايات تقليدية جداً، كحكاية أبٍ مدمن تموت ابنته، وسيدة عجوز تائبة عن ماضٍ مُشين، وأبٍ عجوز يبحث عن ابنٍ غائب، وغيرها. حكايات معروفة ومُشَاهَدة مرّات عدّة في ميلودراميات مصرية سابقة.
ثانياً: لا تُغيِّر الحكايات شيئاً في البطل ولا في الدراما، إذْ يُمكن حذف أيّ منها أو إضافة أخرى أو تبديل أماكنها من دون أنْ ينقص العمل شيئاً، فهذه مجرّد مهمات رقمية لا تورّط فيها، أو تتعلّق بقيمة ما محدّدة.
ثالثاً: الفيلم معنيّ في كلّ حكاية بتبديل نبرته لأسبابٍ تجارية. لو أنّ العمل يدّعي الروحانية، فما مبرّر وجود حكاية كوميدية ثقيلة الظلّ وبليدة، كالتي يظهر فيها الممثّل محمد ثروت؟ لماذا يتحوّل العمل إلى فيلم حركة، بتنفيذٍ رديء للغاية، في الجزء الخاص بالممثل محمد لطفي؟ بالإضافة إلى غياب المنطق تماماً في أجزاء متفرّقة: لماذا يستعين يحيى بضابط برتبة لواء في جهاز الشرطة للبحث عن فرج، الابن الغائب، بينما يذهب بنفسه إلى فيلا الدقّاق، رفقة شخصيات القصص؟ لا لشيء، إلّا لرغبة الصنّاع في أنّ يكون هناك مشهد حركة بملامح كوميدية.
في الصورة الأوسع، هناك افتعال لامتناهٍ في منطق "صاحب المقام" ومنظوره، وهذا يتجاوز الأفكار، واستسلام العمل للغيبيّات، واعتماد سردية مُبسّطة ومُطلقة تقول إنّ سيدي الهلالي (صاحب المقام) غضب على يحيى الرمالي، فانتقم منه في شركته وأمواله ومرض زوجته، لتمتدّ المشكلة إلى كيفية تشكيل السمات الفنية لعالم الفيلم، وبشكل واضح جداً في شخصية روح (التي أدّتها يسرا برمزية طافحة، كالاسم)، حيث لا يُقرّر السيناريو والصنّاع أهي "شخصية مادية" (يراها الآخرون ويحكون عن تاريخها)، أم "روحية" (تتراءى ليحيى في مواقف مختلفة)؟
سوشيال ميديا
#مصر تواجه #كورونا بدعاء "مولانا السيسي"
المراوحة بين الجانبين جزءٌ من ضحالة رؤية الفيلم للمواضيع التي يناقشها. ضحالة فنية، تظهر في سمات الشخصيات وعلاقتها بالعالم وتطوّر الدراما، قبل أنْ تكون ضحالة فكرية. كان يُمكن لـ"صاحب المقام" أنْ يكون أفضل، بناء على فكرته وما يمكن أن ينفتح منها. لكنْ، لحدوث هذا، هناك حاجة إلى بعض الجدّية من إبراهيم عيسى، بدلاً من إغواء طرح أفكاره على الطاولة بشكل صاخب ومثير كالعادة. حاجة إلى عملٍ إخراجي أقلّ شكلانية من المخرج ماندو العدل، لا يهتمّ بوضع موسيقى صوفية في شريط الصوت، أو تصوير الأضرحة والمساجد بواسطة الـ"درون"، بقدر ما يهتمّ بالدراما وتطوّر الحدث، والإخلاص إلى نوع الفيلم وطبيعته، من دون التنقّل بمزاجية بين الكوميديا والميلودراما والحركة.