بالتزامن مع "صالون باريس للكتاب"، انتظم في العاصمة الفرنسية معرض كتاب ثان، في نفس الأيام، تجمّعت فيه دور النشر المستقلة التي تعتبر نفسها خارج المعرض انطلاقاً من رؤية مضادة لجعل الكتاب سلعة وبالتالي تحويل الثقافة إلى مطية للوصول إلى ما في جيوب القرّاء.
انتظم المعرض بين 16 و18 آذار/ مارس الجاري، في دورته السادسة عشرة. وقد أتى في الأصل بمبادرة من جمعية "الكتاب الآخر" (تأسّست في 2002)، وبات يُعرف في الصحافة الثقافية الفرنسية بـ"صالون الكتاب الآخر"، كما يُعرف أيضاً بـ"فيرساي أوف"، في تلميح لمقاطعة المشاركين للمعرض الأساسي الذي يقام في ضاحية "بورت دو فيرساي".
كثيراً ما يقال أن "مهنة" الناشر هي مزيج بين مدير الأعمال والمثقف. كل معرض من معرضيْ باريس هو ميَلان (ربما أكثر من اللزوم) في اتجاه معيّن، فوراء دور النشر الأساسية التي تشارك في "الصالون الكبير" مسؤولون هم أقرب إلى رجال أعمال منهم إلى ناشرين بالمعنى الدقيق، بعضهم لا يتعامل مع الكتاب إلا كأرقام مبيعات، بينما في "الصالون الصغير" تنقلب الآية تماماً، فالناشرون هنا لهم علاقة شخصية مع كل كتاب يصدرونه.
وفي الحقيقة، إذا حصرنا نظرنا في الكتاب كمنتج نهائي، فلن نجد فروقات كبيرة بين منتج "صالون الكتاب" و"صالون الكتاب الآخر"، فإذا توفّرت لدى دور النشر الكبرى كل الإمكانيات لإنتاج كتاب على أعلى درجة من الإتقان، فإن دور النشر المستقلة توفّر له الكثير من العناية، فنجد ابتكارات تصميمية ومحتويات بمستوى رفيع، وليس نادراً أن ينشر أحد الكتّاب المعروفين كتابه فيها، بالإضافة إلى أننا نجد لدى هذه الدور مختلف الأنماط من الرواية والفكر إلى كتب الفن والترجمات والخيال العلمي والكتب المصوّرة وغيرها.
من الفروقات الأخرى التي يمكن تسجيلها بين المعرضين، هو شكل تنظيم المحاضرات حيث أنها هنا عبارة عن حلقات، وربما تتشكّل عفوياً في نقاش بين مجموعة من الحاضرين (عارضين وكتّاب وجمهور). تلتقط أذنا المتجوّل في المعرض أحاديث من قبيل: "هل تجدون الشعر في صالون الكتاب؟"، فيقول أحدهم ساخراً "ذلك المعرض يحقّق نبوءة هيغل"، ويقول آخر "ماذا عن القصة القصيرة، والأجناس التي يبتدعها الكتّاب؟ يحدث نفس الشيء" في إشارة إلى هيمنة الرواية والكتب السياسية والأكاديمية.
تناول نقاش آخر مسألة تسويق الكتاب، ورفع أحدهم كاركاتيراً تظهر فيه حفلات التوقيع المرتّبة التي تنظمها دور النشر الكبرى، حيث توضع مجموعة من الكتاب في طاولة واحدة وأمامهم طوابير من القرّاء ليبدو المشهد مثل طوابير المستهلكين في أي سوبرماركت.
المعرضان اللذين يبدوان كنقيضين، يشتركان في حضور جماهيري مرتفع، وهما في النهاية يعبّران عن وجود سوقيْ كتاب بمسارات توزيع وقراءة مختلفة في فرنسا، وقبل ذلك يعبّران عن وجود رؤيتين للعالم، فليس "صالون باريس للكتاب" سوى ذلك الجزء المكرّس والذي هو مجرّد وجه ثقافي للنظام العالمي، بينما "فيرساي أوف" هو الفضاء الذي تعلو فيه أصوات من يشعرون بأنهم على الهامش.