يطرح فيلم "عرق الشتا" (2016)، للمغربي حكيم بلعباس (1961)، قضايا جمالية وشكلية وتقنية عديدة، ترتبط في جوهرها بصناعة السينما، وتترجم فهمه للعمل السينمائي. ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها بلعباس إلى هذا النوع من الحفريات، فغالبية أفلامه تتميّز بقدرة على إنجاز بحث سينمائي واضح للعيان.
لعلّ مشاهدي "عرق الشتا" ونقّاده توقفوا عند تيمته الأساسية "الأرض". فالقصة، التي تشكّل عصب الحكاية في الفيلم، كامنة في علاقة الفلاح امبارك (أمين الناجي) بأرضه التي تنتظر هطول المطر أو ماء بئر تخرج من تحتها لتروي عطشها الذي دمَّرها، وأطاح معها الفلاح الذي لا شيء له غير انتظار "وقت الشتا"، أو إيجاد بديل عن الشتاء بحفر بئر ماء تنقذ الأرض، ومعها الإنسان.
إلى هذا، يوازي حكيم بلعباس قصّة الفلاح وانتظاره المطر بقصّة أخرى موارِبة، تتحكم في تفاصيل البناء الفيلمي: إيقاع الزمن وتفاصيله وتحوّلاته وآثاره.
فحكيم بلعباس معروف بكونه تاركوفسكيّ الهوى، وهذا مترجم في عمله، حيث كلّ مشهد منه ينحت في زمن اللقطة، ويعطيها حقّها حتى تستنفد مجالها الزمني كلّه. في كلّ لقطات الفيلم، ظلّ المخرج وفياً لهذه "التقنية التركوفسكية"، فبدا أشبه بنحات ينحت في زمن الفيلم لقطة لقطة، وداخل اللقطة ينحت ثوانيها صورة صورة، ليُخرج فيلمًا يلزمه صبر كبير (126 د.)، يحتاج إليه المتفرّج المغربي الذي تغويه قصص الأرض والبادية حتى زمن قريب، قبل أن تحصل تخمة في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تُركّز على موضوع "العروبي/ البدوي" وعلاقته بأرضه.
حكاية "عرق الشتا" تكاد تكون دارجة وبسيطة ومستمدة من واقع فلاحين مغاربة كثيرين يُعانون الأمرّين مع "البنك الفلاحي" الذي يمنحهم قروضًا. في حالة تعسّر تسديدهم تلك القروض، يضطرون إلى بيع أراضيهم أو فقدانها. بلعباس ينسج أزمنة الحكي الفيلمي في كتلة واحدة، وهو حكي بسيط يظهر في قصّة الفلاح وزوجته ومعاناتهما مع تسديد القرض وكفاحهما للحفاظ على الأرض.
في الوقت نفسه، هناك زمن آخر مركّب، يظهر مع شخصية ابن الفلاح أيوب، الذي يعاني "متلازمة داون"، إذْ استسلم بلعباس لـ"زمنه"، حتى أصبحت شخصية أيوب هي من يُحدِّد سير الأحداث الزمنية، ما دفع المخرج نفسه إلى تجاوز السيناريو ومخطّطه الإخراجي.
هذه إحدى خاصيات سينما حكيم بلعباس، الذي يرى البعض أن أفلامه مختلفة لكنها تذهب إلى المهم في العمل السينمائي، حيث يُكسر النص المكتوب ويتمّ تجاوزه، لإحلال نص آخر مرئي محله.
"الزمن شرطٌ لوجود الأنا لدى كل فرد. هذا يُشبه الوسيط الثقافي الذي يتعرّض للتدمير حين لا تعود هناك حاجة إليه"، كما في "الزمن المنحوت" لأندريه تاركوفسكي. هذا يظهر في عمل بلعباس. فالشخصيات مهمّة بزمنها، وإيقاع الفيلم يخضع للزمن أيضًا: محاولات الفلاح إنقاذ أرضه، وانتظاره المطر، وتضييق زمن تسديد القرض لـ"البنك الفلاحي"، والبحث عن الماء بحفر بئر، وتخلّي امبارك عن الفكرة.
أزمنة تنحت شخصية امبارك لتدمّر نفسها بهدف إنقاذ الأرض التي لم تعد تنجب شيئًا بسبب شحّ المطر. مع هذا الزمن المدمِّر، ينحت بلعباس زمنًا آخر عبر سرد رواية "اللامنتَبَه إليه" من شخصيات الفيلم، الذي يلعب دور الوسيط (المُعين). فأيوب عنصر أصيل في قصة امبارك الذي تجاهله واتّجه إلى تدمير نفسه لإنقاذ الأرض. لكن الماء يأتي أخيرًا، بعد إلحاح أيوب لإكمال عملية الإنقاذ.
لشخصية زوجة الفلاح (فاطمة بالناصر في أحد أفضل أدوارها) إيقاع آخر في زمن الفيلم ومشاهده. زمنها هادئ بطيء ينسج بين عوالم الزوج ومعاناته مع الأرض والماء والقرض، وعالم أيوب المقصي من أبيه بسبب إعاقته الذهنية. زمن يضبط زمن الحكي بين العالمين المختلفين للأب وابنه، ويُنسج مع حكاية أخرى "صامتة" عبر والد الزوج (حميد نجاح، الذي يضعه معظم المخرجين كـ"ديكور" متنقّل في أفلامهم) الذي يصنع أحد المشاهد بما يخدم زمن الفيلم وإيقاعه، ويحيل بدوره إلى زمن مختلف يشترك مع أيوب في زمن عدم الانتباه واللامبلاة من شريحة تعيش الزمن نفسه لكن بإيقاع مختلف وبنظرة خاصة ربما يكون الخلاص الأخير على يديها.