لم تكن التصريحات الأخيرة لـ يوسف زيدان في برنامج "كل يوم" مع المذيع التلفزيوني عمرو أديب مساء هي أول تصريحاته الغريبة، حين صرح بكل وضوح أن صلاح الدين الأيوبي من أحقر شخصيات التاريخ الإنساني – على حد وصفه – بسبب ما فعله بالفاطميين في مصر، وكيف قضى على دولتهم لتثبيت ملك عائلته الأيوبية، ولم تكن تلك التصريحات أيضاً هي الأولى كذلك عن "السلطان الأيوبي" الذي حرّر القدس من أيدي الصليبيين.
ففي مساء يوم 4/12/2015 ببرنامج "ممكن" مع المذيع خيري رمضان على قناة الـ CBC المعروفة بتوجهها الموالي للنظام الحاكم بمصر، بدأ زيدان كلامه عن القدس والمسجد الأقصى وعن المغالطات التاريخية التي أججت صراعاً لا داعي له – من وجهة نظره - بين العرب والمسلمين من جهة والاحتلال الصهيوني من جهة أخرى.
زيدان الذي عمل مستشارًا في مكتبة الإسكندرية، اعتمد على إحدى الروايات عن حادثة الإسراء والمعراج، مدعياً فيها أن النبي محمّد عندما أُسري به إلى المسجد الأقصى المبارك، كما ورد في سورة "الإسراء"، لم يكن هذا هو المسجد الموجود حالياً بالقدس المحتلة، وإنما مسجد آخر بين مكة والطائف، تحديدًا في منطقة تسمى الجعرانة على بعد 60 كم من مكة المكرمة اسمه المسجد الأقصى أيضًا، متجاهلًا بذلك كل الروايات الصحيحة والثابتة في كتب التفسير وصحيح الأحاديث، ومبرزًا فقط كلام الواقدي الذي ضعّفه أغلب أهل الحديث الثقات أمثال البخاري وأبو داود والنسائي ويحيى بن معين وغيرهم.
ادعى صاحب "عزازيل" أيضًا أنه لا قدسية لمدينة القدس، سواء من جانب المسلمين أو اليهود، وأن اسمها في الأصل إيلياء، كما ذكرها عمر بن الخطاب في العهدة العمرية، وأن كل ما في الأمر أنه على مر التاريخ الإسلامي جرت ألعاب سياسية عديدة تلاعب بها القادة المسلمون بقدسية المسجد الأقصى، بداية من الخليفة عبد الملك بن مروان مرورًا بـ صلاح الدين الأيوبي وانتهاءً بـ جمال عبد الناصر، ليجنوا مكاسب سياسية بحتة لا علاقة لها بالدين – على حد تعبيره.
وزعم أن عبد الملك بن مروان عندما ثار عليه عبد الله بن الزبير واعتصم هو وأنصاره في الكعبة امتنع الناس عن الحج فاضطر لبناء مسجد قبة الصخرة على الصخرة التي عرج منها النبي إلى السماء لتكون بديلًا عن المسجد الحرام – على حد وصفه - متعمدًا الخلط بين مسجد قبة الصخرة الذي تتميز قبته باللون الذهبي والمسجد الأقصى المبارك ذي القبة الخضراء.
وأضاف أيضًا أن الأيوبي استغل القدسية "المزعومة" للقدس في تأجيج عواطف عموم المسلمين لقتال الصليبيين المحتلين، ومن ثم يستتب له الأمر ويصبح لأول مرة الكردي المملوكي حاكمًا على العربي.
أثارت تصريحات زيدان موجة انتقادات واسعة بين صفوف المفكرين الإسلاميين؛ فانبروا مدافعين عن مقدسات الإسلام وكان على رأسهم محمد عمارة (1931) المفكر الإسلامي المعروف، إذ نقلت قناة "الجزيرة مباشر" محاضرة يرد فيها عمارة على تدليس زيدان ويشير إلى بعض الحقائق اللافتة.
كان مما أشار إليه محمد عمارة أن هذا الكلام ليس بجديد ولقد أثاره نهاية القرن الماضي أحد أخطر المفكرين الصهاينة ويدعى موردخاي كيدار، وهو أستاذ في جامعة باريلان الصهيونية، وقد قال الرجل بالنص ما أعاده زيدان على مسامع المشاهدين وأشار أيضًا إلى رواية الواقدي الضعيفة.
جاء لقاء خيري رمضان مع صاحب "ظل الأفعى" في معرض دفاع الأخير عن قرار البابا تواضروس، بابا الإسكندرية، بالسماح لأتباعه باستخراج تأشيرة إسرائيلية والذهاب إلى القدس المحتلة لزيارة المقدسات المسيحية هناك، بعد أن كان قد منعها سلفه البابا شنودة لأسباب سياسية – على حد تعبير زيدان - محاولًا على ما يبدو إصلاح علاقته بالكنيسة المصرية التي توترت كثيرًا بعد أن صدرت روايته "عزازيل" المثيرة للجدل عام 2008، وحصدت العديد من الجوائز.
"عزازيل" التي تعني إبليس باللغة السريانية القديمة، تروي قصة راهب مصري يدعى هيبا فرَّ من الإسكندرية وكنيستها المتعطشة للدماء واضطهادها كل من يخالفها في العقيدة إلى كنيسة القيامة بالقدس ثم منها إلى أحد الأديرة النائية في مدينة حلب السورية، وهناك وسوس إليه الشيطان كي يكتب قصة حياته كاملة منذ أن كان صبيًا يعيش في صعيد مصر حتى انتهى به المقام راهباً يعمل في الكنيسة المناوئة عقائديًا وسياسيًا لكنيسة موطنه الأصلي، وحين انتهى من كتابة قصته دفن تلك المخطوطات بجوار سور الدير حيث عثر عليها لاحقًا في العصر الحديث وجرت ترجمتها.
وهاجم حينها الكثير من قيادات الكنيسة المصرية وعلى رأسهم الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس رواية "عزازيل"، متهمًا مؤلفها بالتدليس والكذب والنيل من عقيدة أتباع كنيسة الإسكندرية في بيان عنونه بـ "بهتان زيدان"، تلك الاتهامات التي أنكرها زيدان كاملة، مؤكدًا أن أحداث الرواية صحيحة، وأن الأشخاص المذكورين في الرواية كعالمة العلماء هيباتيا والأنبا نسطور والأنبا كيرلس وغيرهم أشخاص تاريخيون معروفون وأن الصراع الدموي الذي جرى بينهم معلوم ومؤرخ له.
ربما يجد القارئ نفسه مشتتًا بين تصريحات وكتابات زيدان القديمة والحديثة، ولا يدري إلام يرمي الرجل حين يصطدم بثوابت الإسلام والمسيحية محاولًا النيل منها؟ لكن التسريب الذي نشر له على موقع اليوتيوب منذ عام تقريبًا لإحدى ندواته بمدينة دبي ربما يوضح أهداف المؤرخ المثير للجدل من تلك التصريحات، إذ صرّح زيدان أنه اتفق مع السيسي على عقد الندوات والمؤتمرات التي ستؤدي إلى تشكيك الناس في قدسية مدينة القدس والمسجد الأقصى.
وربما يأتي هذا التسريب متسقًا مع المشروع المسمى بـ "صفقة القرن" الذي طرحه عبد الفتاح السيسي خلال زيارته الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع الشهر الماضي، والذي يهدف إلى تسوية الصراع العربي الإسرائيلي بإيجاد وطن بديل للاجئين الفلسطينيين من الممكن أن يكون سيناء، وتصفية فكرة المقاومة الفلسطينية مع الإفراج عن بعض الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال وحل الدولتين على حدود 1967، لكن تبقى قضية القدس هي العقبة في طريق تمرير ذلك المشروع. وهنا يأتي دور "المثقفين" أمثال زيدان وغيره، حين يحاولون جاهدين خلخلة تلك العقيدة المترسخة في نفوس العرب مسلميهم ومسيحييهم.