04 يناير 2021
"فتح" ووهم القرار الفلسطيني المستقل
طوال أكثر من نصف قرن، عبرت حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح، عمّا يمكن تسميته "التيار الوطني الفلسطيني"، وهو التيار السياسي الرئيس في الثورة الفلسطينية المعاصرة، الذي احتكر التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني. ومن نافلة القول إن الحديث، هنا، عن تيار سياسي لا هوياتي، فالوطنية ليست حكراً على تيار سياسي، مهما عَظُم شأنه.
قادت فتح، وعلى مدار ثلاثين عاماً، الثورة الفلسطينية المعاصرة، قبل أن تتحول إلى الحزب الحاكم مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو. كانت "فتح"، إلى أن بدأت حماس تنازعها السلطة، وأحكمت سيطرتها العسكرية على غزة، يوليو/تموز 2007؛ المسؤول الأوحد تقريباً عن الخيارات السياسية الفلسطينية.
ادعت "فتح" تمثيلها ما أسمته "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"، لكنها، في الوقت نفسه، كانت تسير في الاتجاه العام المرسوم من التيار المهيمن على النظام العربي الرسمي، سواء أكان التيار الناصري، أو السعودي فيما بعد الذي دعمها مادياً وسياسياً، وقدّمها لتهيمن على منظمة التحرير التي أنشأها النظام الرسمي العربي نفسه، لتمثل الشعب الفلسطيني وفق محدداته.
وهذا لا يمنع، بالطبع، من بروز تباينات هنا أو هناك، وحتى تناقضات ثانوية. لكن، في المحصلة، والحال هذه؛ ما كان لفتح أن تشق سياقاً مغايراً يمكن له أن يتناقض جذرياً مع السياق الرسمي العربي. والحال هذه، فإن مقولة "القرار الوطني المستقل" كانت مجرد دعايةٍ، استخدمتها البروباغندا الفتحاوية في وجه الخصوم، لا أكثر.
تفردت "فتح" بقيادة الشعب الفلسطيني، واحتكرت قيادتها المتنفذة تمثيله، بدعمٍ من النظام الرسمي العربي، وحرفت نضاله، على الرغم من كل التقدير لتضحيات عشرات آلاف المناضلين من أبناء الحركة الذين أضحى من بقي منهم على قيد الحياة في هامشها أو خارجها اليوم، من السعي إلى استعادة حقوقه المشروعة في أرضه والعودة إليها؛ إلى مجرد إقامة سلطة حكم ذاتي محدود بائسة، في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. فتح التي هي، بحسب دعايتها، حامل المشروع الوطني المستقل، تخلت عن معظم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتخلت عن جوهر القضية الفلسطينية؛ وهو إزالة آثار (ومفاعيل) الحرب العدوانية التي شنتها العصابات الصهيونية على وجود شعب فلسطين على أرضه، وعلى ثقافته وتراثه وتاريخه عام 1948، في مقابل وهم الكيان المستقل على أراضي 1967.
هي تتحمل وحدها تقريباً وزر هذا الانحراف الذي بدّد نضالات ملايين الفلسطينيين وتضحياتهم، بمن فيهم أبناء فتح نفسها، وأضاع وقتاً ثميناً دعّم العدو فيه وجوده على الأرض، فيما استفرد النظام العربي باللاجئين، وعمل ويعمل على تشتيتهم مجدداً وترحيل من بقي منهم قسراً عن الأرض العربية. نعم، إن فتح تتحمل وزر ذلك كله، والمسؤولية التاريخية عنه.
تساءل عضو المجلس الثوري لحركة فتح، عدلي صادق، في مقال له نُشر في "العربي الجديد" عنوانه "إنكار يستوجب إنكاراً": "من هم الذين خاب سعيهم، على مر مراحل القضية الفلسطينية، المتشددون حيال الحقوق القصوى للفلسطينيين في وطنهم، أم من سمّوا أنفسهم، أو سماهم مؤيدوهم، واقعيين ومعتدلين؟" ليجيب في المقال نفسه: "ما يحسم الأمر، بالمعيار التاريخي، لصالح المتشددين حيال وطننا المستلب، ويجعلهم أكثر واقعية، بكثير، من (الواقعيين)؛ أنهم لم يمتلكوا، في أية مرحلة، القرار الفلسطيني".
كان صادق دقيقاً في توصيفه، فالقيادة التي أمسكت قرار فتح ومنظمة التحرير لم تكن في يومٍ تعبر عن قرار فلسطيني مستقل، بل من كانوا الأقرب إلى الاستقلالية في مواقفهم هم الذين ظلوا متمسكين بثوابت القضية الفلسطينية، والذين طالما اتهمتهم بروباغندا فتح بأنهم يحملون أجندات خارجية، بالطريقة نفسها التي يُتّهم فيها اليوم كل من يُعارض أنظمة الاستبداد العربية بالتبعية للخارج الذي تحافظ تلك الأنظمة على أفضل العلاقات معه. وبقدر ما كانت "فتح" لا تعبر عن خيار وطني فلسطيني مستقل، لم تكن القوى المعارضة في منظمة التحرير، بما فيها الجبهة الشعبية، الفصيل الثاني في المنظمة، تعبر عن بديل حقيقي لها، وهذا مبحث آخر.
ليست "فتح" التي أحيت الشهر الماضي انطلاقتها الحادية والخمسين في أفضل أحوالها، فهي تعيش أزمة عميقة على المستويين، التنظيمي والسياسي، لا ينكرها أحد من أبنائها وقياداتها. ولا يمكن تناول هذه الأزمة، بحال تناولها، في معزل عن الأفق المسدود الذي وصل إليه مشروعها السياسي "الكياني"، الذي بات واضحاً اليوم، وفي ظل المعطيات والتطورات على الأرض؛ أنه غير قابل للتحقق، لا بالمعنى الآني المرحلي وحسب، بل حتى بالمعنى التاريخي.
في ظل الحالة التي تعيشها حركة فتح، اليوم، والمخاطر التي تحيط بها، وتضع علامات استفهام على مستقبلها، بات من واجب كتلة كبيرة من كوادر فتح، وكل من هم جزء من الحالة الفتحاوية، الذين أُخرجوا من إطارها التنظيمي في العقدين الماضيين؛ القيام بمراجعة تاريخية صارمة، تعترف بالانحراف الكبير الذي اقترفته قيادة الحركة، وفي مقدمة تلك القيادة ياسر عرفات، فبقدر ما تتحمل "فتح" وزر ما آلت إليه القضية الفلسطينية، اليوم، يتحمل ياسر عرفات، بوصفه قائداً متفرداً، المسؤولية الأولى عن قرارات وخيارات الحركة في ظل قيادته المتفردة.
إن كانت هناك نيّة حقيقية لإخراج "فتح" من أزمتها، ولملمة شتاتها، واستعادة دورها المفقود، لا بد على المخلصين من أبنائها إجراء هذه المراجعة، على هؤلاء الذين تسوؤهم حال حركتهم اليوم أن يدركوا أنها لم تصل إلى هذه الحالة من فراغ، ولا نتاج مؤامرة مزعومة، بل بسبب خياراتها السياسية، وتبعيتها للنظام الرسمي العربي، والتزامها بسقفه السياسي الواطئ حيال القضية الفلسطينية.
إن مراجعة من هذا النوع يمكن لها أن تُفضي إلى تجديد بناء فتح، بقيادة وطنية حقيقية، بعيداً عن القيادة الحالية التي تجاوزها التاريخ، وتعرّيها يومياً جماهير شعبنا المُنتفض في الداخل المحتل. وبعيداً كذلك عن الذين خُلِّقُوا، أو يجري تخْلِيقهم، في حاضنات النظام الرسمي العربي الذين لن يكونوا، في أحسن الأحوال، إلا نسخةً مسخاً للقيادة التاريخية التي قادت واقترفت الانحراف.
قادت فتح، وعلى مدار ثلاثين عاماً، الثورة الفلسطينية المعاصرة، قبل أن تتحول إلى الحزب الحاكم مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو. كانت "فتح"، إلى أن بدأت حماس تنازعها السلطة، وأحكمت سيطرتها العسكرية على غزة، يوليو/تموز 2007؛ المسؤول الأوحد تقريباً عن الخيارات السياسية الفلسطينية.
ادعت "فتح" تمثيلها ما أسمته "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"، لكنها، في الوقت نفسه، كانت تسير في الاتجاه العام المرسوم من التيار المهيمن على النظام العربي الرسمي، سواء أكان التيار الناصري، أو السعودي فيما بعد الذي دعمها مادياً وسياسياً، وقدّمها لتهيمن على منظمة التحرير التي أنشأها النظام الرسمي العربي نفسه، لتمثل الشعب الفلسطيني وفق محدداته.
وهذا لا يمنع، بالطبع، من بروز تباينات هنا أو هناك، وحتى تناقضات ثانوية. لكن، في المحصلة، والحال هذه؛ ما كان لفتح أن تشق سياقاً مغايراً يمكن له أن يتناقض جذرياً مع السياق الرسمي العربي. والحال هذه، فإن مقولة "القرار الوطني المستقل" كانت مجرد دعايةٍ، استخدمتها البروباغندا الفتحاوية في وجه الخصوم، لا أكثر.
تفردت "فتح" بقيادة الشعب الفلسطيني، واحتكرت قيادتها المتنفذة تمثيله، بدعمٍ من النظام الرسمي العربي، وحرفت نضاله، على الرغم من كل التقدير لتضحيات عشرات آلاف المناضلين من أبناء الحركة الذين أضحى من بقي منهم على قيد الحياة في هامشها أو خارجها اليوم، من السعي إلى استعادة حقوقه المشروعة في أرضه والعودة إليها؛ إلى مجرد إقامة سلطة حكم ذاتي محدود بائسة، في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. فتح التي هي، بحسب دعايتها، حامل المشروع الوطني المستقل، تخلت عن معظم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتخلت عن جوهر القضية الفلسطينية؛ وهو إزالة آثار (ومفاعيل) الحرب العدوانية التي شنتها العصابات الصهيونية على وجود شعب فلسطين على أرضه، وعلى ثقافته وتراثه وتاريخه عام 1948، في مقابل وهم الكيان المستقل على أراضي 1967.
هي تتحمل وحدها تقريباً وزر هذا الانحراف الذي بدّد نضالات ملايين الفلسطينيين وتضحياتهم، بمن فيهم أبناء فتح نفسها، وأضاع وقتاً ثميناً دعّم العدو فيه وجوده على الأرض، فيما استفرد النظام العربي باللاجئين، وعمل ويعمل على تشتيتهم مجدداً وترحيل من بقي منهم قسراً عن الأرض العربية. نعم، إن فتح تتحمل وزر ذلك كله، والمسؤولية التاريخية عنه.
تساءل عضو المجلس الثوري لحركة فتح، عدلي صادق، في مقال له نُشر في "العربي الجديد" عنوانه "إنكار يستوجب إنكاراً": "من هم الذين خاب سعيهم، على مر مراحل القضية الفلسطينية، المتشددون حيال الحقوق القصوى للفلسطينيين في وطنهم، أم من سمّوا أنفسهم، أو سماهم مؤيدوهم، واقعيين ومعتدلين؟" ليجيب في المقال نفسه: "ما يحسم الأمر، بالمعيار التاريخي، لصالح المتشددين حيال وطننا المستلب، ويجعلهم أكثر واقعية، بكثير، من (الواقعيين)؛ أنهم لم يمتلكوا، في أية مرحلة، القرار الفلسطيني".
كان صادق دقيقاً في توصيفه، فالقيادة التي أمسكت قرار فتح ومنظمة التحرير لم تكن في يومٍ تعبر عن قرار فلسطيني مستقل، بل من كانوا الأقرب إلى الاستقلالية في مواقفهم هم الذين ظلوا متمسكين بثوابت القضية الفلسطينية، والذين طالما اتهمتهم بروباغندا فتح بأنهم يحملون أجندات خارجية، بالطريقة نفسها التي يُتّهم فيها اليوم كل من يُعارض أنظمة الاستبداد العربية بالتبعية للخارج الذي تحافظ تلك الأنظمة على أفضل العلاقات معه. وبقدر ما كانت "فتح" لا تعبر عن خيار وطني فلسطيني مستقل، لم تكن القوى المعارضة في منظمة التحرير، بما فيها الجبهة الشعبية، الفصيل الثاني في المنظمة، تعبر عن بديل حقيقي لها، وهذا مبحث آخر.
ليست "فتح" التي أحيت الشهر الماضي انطلاقتها الحادية والخمسين في أفضل أحوالها، فهي تعيش أزمة عميقة على المستويين، التنظيمي والسياسي، لا ينكرها أحد من أبنائها وقياداتها. ولا يمكن تناول هذه الأزمة، بحال تناولها، في معزل عن الأفق المسدود الذي وصل إليه مشروعها السياسي "الكياني"، الذي بات واضحاً اليوم، وفي ظل المعطيات والتطورات على الأرض؛ أنه غير قابل للتحقق، لا بالمعنى الآني المرحلي وحسب، بل حتى بالمعنى التاريخي.
في ظل الحالة التي تعيشها حركة فتح، اليوم، والمخاطر التي تحيط بها، وتضع علامات استفهام على مستقبلها، بات من واجب كتلة كبيرة من كوادر فتح، وكل من هم جزء من الحالة الفتحاوية، الذين أُخرجوا من إطارها التنظيمي في العقدين الماضيين؛ القيام بمراجعة تاريخية صارمة، تعترف بالانحراف الكبير الذي اقترفته قيادة الحركة، وفي مقدمة تلك القيادة ياسر عرفات، فبقدر ما تتحمل "فتح" وزر ما آلت إليه القضية الفلسطينية، اليوم، يتحمل ياسر عرفات، بوصفه قائداً متفرداً، المسؤولية الأولى عن قرارات وخيارات الحركة في ظل قيادته المتفردة.
إن كانت هناك نيّة حقيقية لإخراج "فتح" من أزمتها، ولملمة شتاتها، واستعادة دورها المفقود، لا بد على المخلصين من أبنائها إجراء هذه المراجعة، على هؤلاء الذين تسوؤهم حال حركتهم اليوم أن يدركوا أنها لم تصل إلى هذه الحالة من فراغ، ولا نتاج مؤامرة مزعومة، بل بسبب خياراتها السياسية، وتبعيتها للنظام الرسمي العربي، والتزامها بسقفه السياسي الواطئ حيال القضية الفلسطينية.
إن مراجعة من هذا النوع يمكن لها أن تُفضي إلى تجديد بناء فتح، بقيادة وطنية حقيقية، بعيداً عن القيادة الحالية التي تجاوزها التاريخ، وتعرّيها يومياً جماهير شعبنا المُنتفض في الداخل المحتل. وبعيداً كذلك عن الذين خُلِّقُوا، أو يجري تخْلِيقهم، في حاضنات النظام الرسمي العربي الذين لن يكونوا، في أحسن الأحوال، إلا نسخةً مسخاً للقيادة التاريخية التي قادت واقترفت الانحراف.