يهاجم "فتوى" (2018)، للتونسي محمود بن محمود، اللحظة التاريخية والاجتماعية، مُشرّحًا إياها، ومُظهرًا مخاطرها. حكاية دائرية بين وصول البطل ورجوعه. الأحداث تنتهي في المكان الذي بدأت فيه. حكاية فيها شخصيات قليلة تتسكّع في فضاءات معزولة لتستنطقها الكاميرا. لم يحكِ بن محمود القصّة كلّها، بل انتقى منها اللحظات الدرامية الأكثر دلالة. بهذا القطع المُمنهج، يُدرك المُشاهد ما حُذِف وإنْ لم يره. هناك حبكات صغيرة تجري في أمكنة مختلفة، لكنها موصولة بعضها ببعض. يتحرّك البطل، إبراهيم الناظور (أحمد الحفيان)، بين أمكنة توجد صلة قوية بينها وبين الحبكة الرئيسية والحبكات الفرعية. حين تراكمت الشكوك، عاد إبراهيم إلى مكان الجريمة المفترضة (التي ذهب ابنه مروان ضحيتها)، بحثًا عن استنتاجٍ جديد.
في الفيلم، هناك أسرة أمام فاجعة تستدعي منها الترفّع عن الخلافات، لكنها (الفاجعة) تؤدّي إلى تصفية الحسابات. يأتي إبراهيم من المدينة الجديدة ليحقّق ويكتشف تحوّلات عالم المدينة القديمة، حيث عاش طفولته. هذا يعني أن هناك فضاءين وقانونين: في المدينة الحديثة المتحرّرة، فيلات وشوارع واسعة مُشجّرة تمرّ بها الريح والأفكار بسهولة. يمكن لرجال الشرطة مراقبة ما يجري. هنا، أم (لبنى، تمثيل غالية بنعلي) مُسيَّسة لا تريد دفن ابنها دينيًا كما في العصور الوسطى. في المدينة القديمة، دروبٌ مخنوقة ومزدحمة تُخفي أسرارًا. فضاء مغلق، ومنظومة قيميّة وجمعيّة صارمة. هنا، يتولّى "جند الله" دفن الموتى. والدفن ذكوري لا مكان فيه للنساء، ولا لتحديث طقوس الموت.
يُحوّل "فتوى" هذه العتبة المكانية إلى منصّة لكشف شرخ اجتماعي عميق. في المدينة القديمة، يكتشف الأب باستغراب أن الموت يسمّى عيدًا، لأن الميت عند غسْله يبتسم فرِحًا بالجنّة. يستمع إبراهيم إلى الفقيه متحدّثًا بثقة صلبة. هنا تعرّض مروان، المتحدّر من أسرة مفكّكة، لغسل دماغ دوغمائي. تمّ تحريضه ضد والديه. قيل له إن رزق والده حرام لأنه يعمل في السياحة مع الكفّار. قيل له إن "مدرسة الفنون الجميلة" التي يدرس فيها مؤسّسة صليبية، فرسم بورتريهًا بشعًا لنفسه. لمنهج الاستقطاب نتائج فعّالة على الشاب، حتى إن والديه فوجئا بتصرّفاته.
"فتوى" فيلم عن أسباب الصراع بين الجديد الذي يولد والقديم الراسخ. الفتوى قولٌ ديني يبيح لكلّ ذئب منفرد أن يحوّله إلى فعل أو ثأر. يوفّر المِخْيال الديني السائد أرضية خصبة للفتاوى. فيلمٌ يساعد على قراءة المرحلة في شمال أفريقيا. يدفع بسؤال حاسم إلى الواجهة: ما مستقبل الحداثة في مجتمع تقوده الفتاوى؟
أولاً: هناك رفض مظاهر تأثير السياحة، وهي أداة تحديث اقتصادي وثقافي، فالسياحة تجلب عملة صعبة وتقاليد فردية جديدة تستفز الوعي الجمعي. لذا، يستفسر الشيخ عن سلوك الفرد، وحين يتلقى جوابًا مفاده أنّ "هذا شيء يخصني"، لا يقبله. يريد الشيخ أن يملي على الأفراد سلوكهم ليتطابقوا فيما بينهم. ليست صدفة أن تُحارب السياحة في مصر وتونس. في المغرب، ذبح داعشيٌّ سائحتين في جبال مراكش مؤخرًا.
ثانيًا: رفض التحديث الاجتماعي الذي يُحرّر النساء. في "فتوى"، هناك أم مُسيّسة ومُهدَّدة تحميها الدولة. المجتمع أكثر رجعية من الدولة. الدولة البوليسية أكثر تسامحًا مع الحرية الشخصية من المفتي الرافض للديمقراطية ولجهاز الشرطة المُسمّى بـ"الطاغوت"، لأنه جهاز فعّال في قمع المتشدّدين.
ثالثًا: ثقافيًا، تُقدَّم الحداثة على أنها من وحي إبليس. الحداثة ابنة الفلسفة. وبحسب محمد عابد الجابري، "لم تقم للفلسفة بعد الغزالي قائمة" (نحن والتراث).
في هذا السياق الذي يُهدّده التشدّد، بنى الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي شرعيته على محاربة الإرهاب. صارت النخبُ الحداثية في شمال أفريقيا مرغمة على الاختيار بين الطاعون والكوليرا، بين النظام البوليسي والمتشدّدين الدمويين. عاشت الجزائر تجربة مريرة مع الإرهاب.
محمود بن محمود مخرج غير مُسيّس. نقطة ضعف واحدة في ختام "فتوى": استسهال الحل. فالفيلم يعرض سرديًا صدام الحداثة والتقليد في نصفه الأول، وبخطابية كثيرة في النصف الثاني. في مرحلة الهبوط، أي مرحلة تَمَلّك البطل وسائل الحل وبدء انكشاف كتلة أكاذيب الخصم، يجري ذلك بسهولة، شفويًا لا بصريًا، حين تظهر الشابة من دون نقاب، وتتحدث. التحليل كلّه الذي قالته ينمّ عن وعي ومعجم لا يلائمان سنّها وتعليمها، إلا إنْ وقعا عليها فجأة. المعلومة الوحيدة المطابقة هي أنها وضعت النقاب بعد الزواج. إنه شرط. كلّ شابة تنقّبت يوم زواجها مرغمةً. تتمّ مقايضة الزواج بالنقاب.