14 نوفمبر 2021
"فرانكو" الميت... "فرانكو" الحيّ
تُجرى يوم الأحد الانتخابات التشريعية الإسبانية للمرة الرابعة في السنوات الخمس الأخيرة. وهو رقم يؤشر على عدم الاستقرار الذي أصبح يعيشه البلد الأيبيري، نتيجة حالة التشرذم الشديدة التي أصبحت تعرفها الساحة السياسية فيه أخيراً.
ويسجل المتابع للوضع في هذا البلد الأوروبي تبايناً كبيراً في مواقف قواه السياسية (التي انقسم فيها المنقسم) حول قضايا مصيرية، يتعلق بعضها بالاختيارات السياسية والاجتماعية. وهو أمر يبدو مثيراً للاستغراب في بلد ديمقراطي يفترض أن يكون النقاش قد حسم فيه منذ زمن حول شكل الدولة وطبيعة التعاقد القائم بين أفرادها ومؤسساتها، في ظل دستور مضى على صياغته أكثر من أربعة عقود.
وشهدت السنوات الأخيرة عودة النقاش بقوة حول إرث الدكتاتور "فرانكو". صحيح أن الرجل وعهده لم يغيبا عن النقاشات المجتمعية بالكامل، فما عاناه الإسبان في فترة حكمه من قتل وتعذيب ونفي ليس بالأمر الذي يسهل نسيانه.
لكن هذا النقاش، وإن كان حاضراً خلال سنوات الديمقراطية الأولى، فإنه لم يكن بالقوة التي عاد بها اليوم إلى الواجهة، لاعتبارات عدة أهمها: الطفرة الاقتصادية التي عرفها البلد آنذاك وانعكاساتها الإيجابية على مستوى عيش الناس، هذا مع حداثة عهدهم حينها بهامش الحرية، وقربهم من سنوات القمع والمطاردة.
وعلى الرغم من ذلك، نادى الاشتراكيون في عقد الثمانينيات بمحو آثار "فرانكو" وعهده عبر مجموعة من المبادرات؛ كدعوتهم إلى تغيير أسماء الشوارع والمؤسسات المرتبطة بقادة النظام الفاشي ورموزه، وقد غُير فعلاً الكثير منها، ليسود الاعتقاد بتحقيق القطيعة معه إلى غير رجعة.
وبعد حضور خجول طوال عقد التسعينيات، عرفت بداية الألفية الجديدة وما تلاها عودة قوية لهذا النقاش، وخصوصاً في السنوات الأخيرة من ولاية "الحزب الشعبي" ورئيسه "ماريانو راخوي". فالكتالونيون رفعوا - من أول يوم لحراكهم الانفصالي - شعار "فاشي" في وجه النظام الرسمي الإسباني، معتبرين أن الدولة الإسبانية الحالية إنما هي امتداد لنظام "فرانكو".
وقد شاركهم في ذلك "الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني" الذي كان يردد من حين لآخر - ولو بصفة محتشمة - بعضاً من مقولات الكتالونيين.
وفي هذا السياق تأتي مطالبات هذا الحزب المستمرة بنقل رفات "فرانكو" من مرقده الفخم في النصب التذكاري في "وادي الساقطين" (الفايي دي لوس كايدوس) إلى مقبرة خاصة بمدريد - وللإشارة، فالدعوات إلى تحقيق ذلك كان قد أطلقها الحزب منذ الثمانينيات - معتبراً أن الدكتاتور ما كان له أن يحظى بكل هذا التشريف بعد مماته، وهو المسبّب لقتل عشرات الآلاف من الإسبان.
ويعتبر الكثيرون حملة هذا الحزب على فرانكو ونظامه غرضها انتخابي محض، وليست انتصاراً لضحايا هذا النظام. وهو ما يؤكده التوظيف الكبير الذي قام به رئيس الحزب "بيدرو سانشيز" لحدث "نقل الرفات" في حملته الانتخابية الأخيرة، متوعداً كذلك بـ"حظر" مؤسسة فرانكو الوطنية - التي تعمل على رعاية تراث الديكتاتور وحفظه - في المرحلة القادمة، إن حصل وفاز في انتخابات اليوم.
ويتخذ حزب "متحدات نستطيع" اليساري مواقف الحزب الاشتراكي نفسها، لكنه يتبنى فيها خطاباً أكثر تشدداً، ما يقربه أكثر من الأحزاب القومية الانفصالية في الأقاليم، وهو ما فتئ يعبر عنه الكاتب الإسباني "بابلو إيكليسياس" الذي يؤكد ضرورة القطع مع فرانكو ورموزه في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلد، مطالباً بمحاسبة كل من يتعاطف مع الدكتاتور وعهده.
أما القوى اليمينية، فمواقفها تبدو مختلفة، إذ تنفي بداية أي صلة للنظام الاسباني الحالي بسابقه، معتبرة أن العودة إلى الماضي لا يجب أن تكون إلا بغرض أخذ العبرة منه، حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها في المستقبل. هذا مع ضرورة الحفاظ على مقومات الدولة الوطنية الجامعة. وهو موقف يشترك فيه كل من الحزب الشعبي، وحزب "مواطنون" المصنف كـ"يمين وسط".
لكن اليمين في إسبانيا أصبح بثلاثة رؤوس، فقد عرفت السنوات الأخيرة صعود حزب يميني جديد متطرف، مستفيداً في ذلك من تراجع "الحزب الشعبي" (يشاركه في استفادته تلك حزب "مواطنون"). صعود يرده البعض إلى تطرف الأحزاب القومية الإقليمية ومعها الأحزاب اليسارية الجذرية. نتحدث هنا عن حزب "فوكس"، الذي ظل يردد منذ ظهوره أدبيات اليمين الأوروبي المتطرف، ومنها طبعاً اللعب على وتر الوطنية الإسبانية الواحدة الموحدة. وهو وإن لم يدافع صراحة عن فرانكو ونظامه، يبدو غير راضٍ عمّا يجري من هجوم متواصل على عهد الدكتاتور ورموزه، معتبراً أن الفاشية لم يعد لها وجود مركزي، لكنها في المقابل أصبحت تمارَس من طرف بعض الأحزاب والحكومات المحلية في الأقاليم.
والحقيقة أن التباين في المواقف حول "فرانك" وعهده لا يقتصر على النخب السياسية، بل يمتد إلى الشارع الإسباني كذلك. فالشعور الوطني لدى الكثير من الإسبان يبدو فاتراً إذا ما قورن بجيرانهم الفرنسيين أو الإيطاليين أو الإنجليز. ونمثل له بضعف تفاعلهم مع رموز الدولة الإسبانية كالعلم والنشيد الوطنيين وغيرهما، فالكثيرون لا يجدونها ممثلة لهم بقدر تمثيلها لنظام الدكتاتور "فرانكو".
وغير هؤلاء، تبدو فئة أخرى من الإسبان متحسرة على أيام الدكتاتور البائدة، وهم الذين يشكلون القاعدة الانتخابية لحزب "فوكس". ويذهب بعض المحللين السياسيين إلى أن مواقف هذه الفئة مردها الأزمة الاقتصادية والبطالة أكثر مما هي تصريف لقناعات سياسية أو أيديولوجية.
ويسجل المتابع للوضع في هذا البلد الأوروبي تبايناً كبيراً في مواقف قواه السياسية (التي انقسم فيها المنقسم) حول قضايا مصيرية، يتعلق بعضها بالاختيارات السياسية والاجتماعية. وهو أمر يبدو مثيراً للاستغراب في بلد ديمقراطي يفترض أن يكون النقاش قد حسم فيه منذ زمن حول شكل الدولة وطبيعة التعاقد القائم بين أفرادها ومؤسساتها، في ظل دستور مضى على صياغته أكثر من أربعة عقود.
وشهدت السنوات الأخيرة عودة النقاش بقوة حول إرث الدكتاتور "فرانكو". صحيح أن الرجل وعهده لم يغيبا عن النقاشات المجتمعية بالكامل، فما عاناه الإسبان في فترة حكمه من قتل وتعذيب ونفي ليس بالأمر الذي يسهل نسيانه.
لكن هذا النقاش، وإن كان حاضراً خلال سنوات الديمقراطية الأولى، فإنه لم يكن بالقوة التي عاد بها اليوم إلى الواجهة، لاعتبارات عدة أهمها: الطفرة الاقتصادية التي عرفها البلد آنذاك وانعكاساتها الإيجابية على مستوى عيش الناس، هذا مع حداثة عهدهم حينها بهامش الحرية، وقربهم من سنوات القمع والمطاردة.
وعلى الرغم من ذلك، نادى الاشتراكيون في عقد الثمانينيات بمحو آثار "فرانكو" وعهده عبر مجموعة من المبادرات؛ كدعوتهم إلى تغيير أسماء الشوارع والمؤسسات المرتبطة بقادة النظام الفاشي ورموزه، وقد غُير فعلاً الكثير منها، ليسود الاعتقاد بتحقيق القطيعة معه إلى غير رجعة.
وبعد حضور خجول طوال عقد التسعينيات، عرفت بداية الألفية الجديدة وما تلاها عودة قوية لهذا النقاش، وخصوصاً في السنوات الأخيرة من ولاية "الحزب الشعبي" ورئيسه "ماريانو راخوي". فالكتالونيون رفعوا - من أول يوم لحراكهم الانفصالي - شعار "فاشي" في وجه النظام الرسمي الإسباني، معتبرين أن الدولة الإسبانية الحالية إنما هي امتداد لنظام "فرانكو".
وقد شاركهم في ذلك "الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني" الذي كان يردد من حين لآخر - ولو بصفة محتشمة - بعضاً من مقولات الكتالونيين.
وفي هذا السياق تأتي مطالبات هذا الحزب المستمرة بنقل رفات "فرانكو" من مرقده الفخم في النصب التذكاري في "وادي الساقطين" (الفايي دي لوس كايدوس) إلى مقبرة خاصة بمدريد - وللإشارة، فالدعوات إلى تحقيق ذلك كان قد أطلقها الحزب منذ الثمانينيات - معتبراً أن الدكتاتور ما كان له أن يحظى بكل هذا التشريف بعد مماته، وهو المسبّب لقتل عشرات الآلاف من الإسبان.
ويعتبر الكثيرون حملة هذا الحزب على فرانكو ونظامه غرضها انتخابي محض، وليست انتصاراً لضحايا هذا النظام. وهو ما يؤكده التوظيف الكبير الذي قام به رئيس الحزب "بيدرو سانشيز" لحدث "نقل الرفات" في حملته الانتخابية الأخيرة، متوعداً كذلك بـ"حظر" مؤسسة فرانكو الوطنية - التي تعمل على رعاية تراث الديكتاتور وحفظه - في المرحلة القادمة، إن حصل وفاز في انتخابات اليوم.
ويتخذ حزب "متحدات نستطيع" اليساري مواقف الحزب الاشتراكي نفسها، لكنه يتبنى فيها خطاباً أكثر تشدداً، ما يقربه أكثر من الأحزاب القومية الانفصالية في الأقاليم، وهو ما فتئ يعبر عنه الكاتب الإسباني "بابلو إيكليسياس" الذي يؤكد ضرورة القطع مع فرانكو ورموزه في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلد، مطالباً بمحاسبة كل من يتعاطف مع الدكتاتور وعهده.
أما القوى اليمينية، فمواقفها تبدو مختلفة، إذ تنفي بداية أي صلة للنظام الاسباني الحالي بسابقه، معتبرة أن العودة إلى الماضي لا يجب أن تكون إلا بغرض أخذ العبرة منه، حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها في المستقبل. هذا مع ضرورة الحفاظ على مقومات الدولة الوطنية الجامعة. وهو موقف يشترك فيه كل من الحزب الشعبي، وحزب "مواطنون" المصنف كـ"يمين وسط".
لكن اليمين في إسبانيا أصبح بثلاثة رؤوس، فقد عرفت السنوات الأخيرة صعود حزب يميني جديد متطرف، مستفيداً في ذلك من تراجع "الحزب الشعبي" (يشاركه في استفادته تلك حزب "مواطنون"). صعود يرده البعض إلى تطرف الأحزاب القومية الإقليمية ومعها الأحزاب اليسارية الجذرية. نتحدث هنا عن حزب "فوكس"، الذي ظل يردد منذ ظهوره أدبيات اليمين الأوروبي المتطرف، ومنها طبعاً اللعب على وتر الوطنية الإسبانية الواحدة الموحدة. وهو وإن لم يدافع صراحة عن فرانكو ونظامه، يبدو غير راضٍ عمّا يجري من هجوم متواصل على عهد الدكتاتور ورموزه، معتبراً أن الفاشية لم يعد لها وجود مركزي، لكنها في المقابل أصبحت تمارَس من طرف بعض الأحزاب والحكومات المحلية في الأقاليم.
والحقيقة أن التباين في المواقف حول "فرانك" وعهده لا يقتصر على النخب السياسية، بل يمتد إلى الشارع الإسباني كذلك. فالشعور الوطني لدى الكثير من الإسبان يبدو فاتراً إذا ما قورن بجيرانهم الفرنسيين أو الإيطاليين أو الإنجليز. ونمثل له بضعف تفاعلهم مع رموز الدولة الإسبانية كالعلم والنشيد الوطنيين وغيرهما، فالكثيرون لا يجدونها ممثلة لهم بقدر تمثيلها لنظام الدكتاتور "فرانكو".
وغير هؤلاء، تبدو فئة أخرى من الإسبان متحسرة على أيام الدكتاتور البائدة، وهم الذين يشكلون القاعدة الانتخابية لحزب "فوكس". ويذهب بعض المحللين السياسيين إلى أن مواقف هذه الفئة مردها الأزمة الاقتصادية والبطالة أكثر مما هي تصريف لقناعات سياسية أو أيديولوجية.