05 نوفمبر 2024
"فيسبوك" للثورات وتعويضاً عن الإعلام
صنعت التغريدات في العالم الافتراضي الربيع في العالم الحقيقي. وبدا أن العصافير في جغرافيا شعوب الشرق الأوسط أصبحت، بعدها، تمتثل لقصيدة محمود درويش، وتهوى الغناء على سرير النائمين، أو القتلى ممن تركتهم ثورات "فيسبوك" على قارعة التاريخ.
لنبدأ من البداية: في عز الثورات العربية، كانت الإحصائيات تقول إن عدد مستخدمي "فيسبوك" في هذا الجزء من العالم ناهز 32 مليون مستخدم، وكانت مصر الأولى في توظيف الموقع الاجتماعي في إطاحة النظام، وأيضاً، إطاحة أساليب الثورات القديمة في تبادل المعلومات. بدا أن طيور الصفحة الزرقاء تفوق "الكاسيت" في قيادة التحول الاستراتيجي الكبير في إيران الذي قاده الخميني في 1979، بل لعلنا اعتقدنا أن التنظيمات السرية تولد وتكبر في حاضنة الصفحات الاجتماعية، قبل أن تخرج إلى الشارع لإطاحة النظام والعودة مجدداً إلى المتاريس وراء الكومبيوترات لحماية مستقبل التغيير.
الواقع الشرس الذي نتعايش معه، الآن، أن الأعداد المتزايدة من الملتحقين بمعابد "فيسبوك" لم تستطع تكوين جيش احتياطي لحماية الثورات، وفشلت الأخيرة في الحفاظ على ما وعدت به في صفحات المواقع إياها. فـ "فيسبوك" ساحة الثورات القديمة عاد حائط المبكى الجديد ليهود التاريخ الجدد، العرب التائهين بين الضفاف والتوابيت، من العراق إلى سورية واليمن، وفي إفريقيا وجنوب الصحراء والحالمين بالفردوس الذي ظنوا أنهم ملاقوه، على صفحات إلكترونية، مصحوبين بأسراب العصافير الزرقاء.
والحقيقة أن الجمهورية الفاضلة التي وعدهم بها فلاسفة الثورات الجديدة، على غرار "أفلاطون" مع الشعراء في العالم القديم، كانت تهيئ لهم الخروج منها، مخفورين بمواكب المنشدين والمغنين الذين يرافقونهم إلى الحدود ليعيشوا وراءها، لأن الجمهورية عادت إلى صوابها العربي الحقيقي، وعادت إلى عقيدتها في الإيمان بـ "الفيلسوف – الملك" الذي يسعى إلى إسعادنا، على الرغم من أنوفنا، لكنه يخشى أن نشوش عليه، ونقوّض أحلام جمهوريته الفاضلة، فيطردنا منها.
وحدث كما حدث لنا مع الثورات التي هزت العالم قبل، ولم تسقط فاكهته علينا إلا في جوانبها السطحية. أين الثورة الزراعية، وماذا بقي لنا منها؟
هناك شعوب من الجوعى ينتظرون حقهم من سلال أميركا، وجيوش أصبحت المستثمر الأكبر في الحقول، وأولها حقول النفط الريعية.
أين الثورة الصناعية، وماذا بقي لنا منها؟
هناك بلدان من العمال اليدويين البئيسين، تحولت إلى "اشتراكية للثكنات"، ولما ضاعت الاشتراكية إياها ضاعت الجيوش، أو بقيت محافظة على حقول النفط وحدها، في التقاء تاريخي غير مسبوق بين الثورتين، الزراعية والصناعية في.. حديقة الجنرال.
وكما لا نتذكّر الأشياء الكثيرة عن الأحلام التي رافقت الثورتين السابقتين، فنحن لا نتذكّر الكثير عن الأحلام التي راودت الثورة الحالية، إلا ما نراه يومياً أمام حائط المبكى الجديد وشعوب العرب التاريخية، وقد جاءت تتضرع أمامه، لعل السماء تعود إلى وظيفتها في إنقاذ البشرية، عبر الدعوات وتوزيع صكوك الاستغفار ووصفات الرب في إسعاد البشر وإنقاد أرواح الرحل الهائمة في جحيم الخيبة.
أصبح "فيسبوك"، في كل العالم، الوسيط بين الناس والإعلام، وهو يعوّض رويداً رويداً الإعلام نفسه في المعلومة والقراءة والتحليل، في حين سقط عندنا في الذي سقط فيه الإعلام في شرق المتوسط وغربه. ويقول تقرير صادر عن استطلاعٍ أجراه معهد رويتر البريطاني، لدى 20 ألف مستعمل من أوروبا وأميركا واليابان، إن 14٪ من الرواد استعملوا "فيسبوك" للوصول إلى المعلومة، أو التعليق عليها، أو اقتسامها ومشاركة الآخرين فيها. وفي الوقت نفسه، بقيت العيوب نفسها التي تلطخ الإعلام الرسمي تتناسل عندنا، منها توظيفات المديح، واللجوء إلى افتعال الأخبار، وغياب النقاش الحار الذي رافق الثورات، والخروج من دائرة القياس الدولية، حسب المعايير المتعارف عليها، وفي أحيان كثيرة، وفي دول كثيرة، تحول "فيسبوك" إلى وكالة أنباء عربية مضادة للثورات!
والواضح أننا نأتي دوما متأخرين بثورة، لكننا سرعان ما نضيفها إلى ما سبقها، لكي نتأخر.. أربع ثورات في ألفية واحدة!
وغير بعيد عن المجال، يلاحظ الباحث عن شعوب الشرق الأوسط أننا لم نعد تعديل الثورات الحديثة فقط، بل أعدنا أيضا إعادة تشكيل البنية المفهومية التي تأسست عليها هوية الشعوب في شرق المتوسط وغربه. فإذا نظرنا إلى مؤشر السلام العالمي السنوي لعام 2014 الذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام، مثلا، الواضح أن عدة دول عربية وضعت في ترتيب متأخر، فكل الشعوب ارتقت، إلا هذه الشعوب التي تراجعت في سلم الطمأنينة، وهي التي أشهرت في الناس: السلام عليكم!
وإذا نظرنا إلى تقرير المقروئية، فالشعوب إياها لا تقرأ أكثر من دقيقتين في اليوم، كما لو أنها لا تقرأ أكثر من المدة التي يتطلبها ترديد أمر القرآن الكريم (اقرأ)، مع بعض التمطيط الزمني فرضته الضرورة التاريخية.
من سوء الخاتمة أننا لا نستطيع إعادة النظر في أنفسنا، نحن قبائل الرحل الجدد في عوالم الإنترنت، إلا إذا أعدنا النظر في كل شيء جميل حققته البشرية.
لنبدأ من البداية: في عز الثورات العربية، كانت الإحصائيات تقول إن عدد مستخدمي "فيسبوك" في هذا الجزء من العالم ناهز 32 مليون مستخدم، وكانت مصر الأولى في توظيف الموقع الاجتماعي في إطاحة النظام، وأيضاً، إطاحة أساليب الثورات القديمة في تبادل المعلومات. بدا أن طيور الصفحة الزرقاء تفوق "الكاسيت" في قيادة التحول الاستراتيجي الكبير في إيران الذي قاده الخميني في 1979، بل لعلنا اعتقدنا أن التنظيمات السرية تولد وتكبر في حاضنة الصفحات الاجتماعية، قبل أن تخرج إلى الشارع لإطاحة النظام والعودة مجدداً إلى المتاريس وراء الكومبيوترات لحماية مستقبل التغيير.
الواقع الشرس الذي نتعايش معه، الآن، أن الأعداد المتزايدة من الملتحقين بمعابد "فيسبوك" لم تستطع تكوين جيش احتياطي لحماية الثورات، وفشلت الأخيرة في الحفاظ على ما وعدت به في صفحات المواقع إياها. فـ "فيسبوك" ساحة الثورات القديمة عاد حائط المبكى الجديد ليهود التاريخ الجدد، العرب التائهين بين الضفاف والتوابيت، من العراق إلى سورية واليمن، وفي إفريقيا وجنوب الصحراء والحالمين بالفردوس الذي ظنوا أنهم ملاقوه، على صفحات إلكترونية، مصحوبين بأسراب العصافير الزرقاء.
والحقيقة أن الجمهورية الفاضلة التي وعدهم بها فلاسفة الثورات الجديدة، على غرار "أفلاطون" مع الشعراء في العالم القديم، كانت تهيئ لهم الخروج منها، مخفورين بمواكب المنشدين والمغنين الذين يرافقونهم إلى الحدود ليعيشوا وراءها، لأن الجمهورية عادت إلى صوابها العربي الحقيقي، وعادت إلى عقيدتها في الإيمان بـ "الفيلسوف – الملك" الذي يسعى إلى إسعادنا، على الرغم من أنوفنا، لكنه يخشى أن نشوش عليه، ونقوّض أحلام جمهوريته الفاضلة، فيطردنا منها.
وحدث كما حدث لنا مع الثورات التي هزت العالم قبل، ولم تسقط فاكهته علينا إلا في جوانبها السطحية. أين الثورة الزراعية، وماذا بقي لنا منها؟
هناك شعوب من الجوعى ينتظرون حقهم من سلال أميركا، وجيوش أصبحت المستثمر الأكبر في الحقول، وأولها حقول النفط الريعية.
أين الثورة الصناعية، وماذا بقي لنا منها؟
هناك بلدان من العمال اليدويين البئيسين، تحولت إلى "اشتراكية للثكنات"، ولما ضاعت الاشتراكية إياها ضاعت الجيوش، أو بقيت محافظة على حقول النفط وحدها، في التقاء تاريخي غير مسبوق بين الثورتين، الزراعية والصناعية في.. حديقة الجنرال.
وكما لا نتذكّر الأشياء الكثيرة عن الأحلام التي رافقت الثورتين السابقتين، فنحن لا نتذكّر الكثير عن الأحلام التي راودت الثورة الحالية، إلا ما نراه يومياً أمام حائط المبكى الجديد وشعوب العرب التاريخية، وقد جاءت تتضرع أمامه، لعل السماء تعود إلى وظيفتها في إنقاذ البشرية، عبر الدعوات وتوزيع صكوك الاستغفار ووصفات الرب في إسعاد البشر وإنقاد أرواح الرحل الهائمة في جحيم الخيبة.
أصبح "فيسبوك"، في كل العالم، الوسيط بين الناس والإعلام، وهو يعوّض رويداً رويداً الإعلام نفسه في المعلومة والقراءة والتحليل، في حين سقط عندنا في الذي سقط فيه الإعلام في شرق المتوسط وغربه. ويقول تقرير صادر عن استطلاعٍ أجراه معهد رويتر البريطاني، لدى 20 ألف مستعمل من أوروبا وأميركا واليابان، إن 14٪ من الرواد استعملوا "فيسبوك" للوصول إلى المعلومة، أو التعليق عليها، أو اقتسامها ومشاركة الآخرين فيها. وفي الوقت نفسه، بقيت العيوب نفسها التي تلطخ الإعلام الرسمي تتناسل عندنا، منها توظيفات المديح، واللجوء إلى افتعال الأخبار، وغياب النقاش الحار الذي رافق الثورات، والخروج من دائرة القياس الدولية، حسب المعايير المتعارف عليها، وفي أحيان كثيرة، وفي دول كثيرة، تحول "فيسبوك" إلى وكالة أنباء عربية مضادة للثورات!
والواضح أننا نأتي دوما متأخرين بثورة، لكننا سرعان ما نضيفها إلى ما سبقها، لكي نتأخر.. أربع ثورات في ألفية واحدة!
وغير بعيد عن المجال، يلاحظ الباحث عن شعوب الشرق الأوسط أننا لم نعد تعديل الثورات الحديثة فقط، بل أعدنا أيضا إعادة تشكيل البنية المفهومية التي تأسست عليها هوية الشعوب في شرق المتوسط وغربه. فإذا نظرنا إلى مؤشر السلام العالمي السنوي لعام 2014 الذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام، مثلا، الواضح أن عدة دول عربية وضعت في ترتيب متأخر، فكل الشعوب ارتقت، إلا هذه الشعوب التي تراجعت في سلم الطمأنينة، وهي التي أشهرت في الناس: السلام عليكم!
وإذا نظرنا إلى تقرير المقروئية، فالشعوب إياها لا تقرأ أكثر من دقيقتين في اليوم، كما لو أنها لا تقرأ أكثر من المدة التي يتطلبها ترديد أمر القرآن الكريم (اقرأ)، مع بعض التمطيط الزمني فرضته الضرورة التاريخية.
من سوء الخاتمة أننا لا نستطيع إعادة النظر في أنفسنا، نحن قبائل الرحل الجدد في عوالم الإنترنت، إلا إذا أعدنا النظر في كل شيء جميل حققته البشرية.