يُشيِّد الألماني التركي فاتح أكن (مواليد هامبورغ، 1973) "في التلاشي" ("غولدن غلوب" أفضل فيلم أجنبي، 2018) على نبرتين أيديولوجيتين. فهو خطاب مُسيَّس ضد شعبوية أوروبية، وإشادة بالسينما كفعلٍ تدميري للفهم المتحزّب والجاهز، والقائم على إدانة غريبٍ وافدٍ وشيطنته، قبل استبعاده.
فاتح أكن مخرج مشاكس، بلا ادّعاءات. عنيد وصلب في حججه، بلا شطط تجاري. المرأة والعائلة مفردتان تزهوان على شاشاته. نصير دائم لهما، وحافظ لقيمهما، ومتمعِّن في متغيراتهما. جديده مانيفستو صدامي عن الزهو بالثأر، فعندما تتواطأ الدولة ومؤسّساتها في ليّ الحقيقة، وتستبعد قصاصها، يصبح أمام الأم الشابة كاتيا شاكرجي ـ أداء قوي لديان كروغر، الفائزة بجائزة أفضل ممثلة عن دورها هذا، في الدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" ـ خيار فريد، اعتباري وقدري وعاطفي، لن تحيد عنه: أن تأخذ حقّ دماء طفلها الصغير وزوجها، اللذين اغتيلا بتفجير قنبلة إرهابية، بيديها وعزمها.
"في التلاشي" (106 د.) 3 أفلام دفعة واحدة: حكاية آصرة عائلية مبنيّة على توافق عرقي متوازن ومتطامن. والدة ألمانية بيضاء وشقراء، مع عينين شديدتيّ الزرقة. هي سمات فيزيقية أساسية، يصرّ نصّ أكن عليها، لاعتبارٍ مفاده أن العنصريّ في حكايته مهزومٌ قطعًا، وأنه مناصرٌ بلا هوادة لعشقٍ لا يخشى اختلاف سحن وتمايزات اجتماعية. أما الوالد، فهو محام كردي بملامح شرقية وطلّة عصرية. رجل حيوي، يفيض بالحنوّ والالتزام الأُسري، فيما يكون ثالثهما طفلٌ، هو ثمرة منيرة للقاح متنوّع ومتداخل وخصب.
هناك، أيضاً، حكاية تقويض عائلي يحدث نتيجة تفجير، تزرع فتاة غامضة قنبلته، خارج مكتب الزوج نوري، بوجود ابنه روكو. هنا، نتابع محنة كاتيا وهي تراقب ـ مَمْرُورة ـ "تلاشي" حلم بيتها، وموت سلالتها، وغياب أحبّتها.
أخيراً، هناك حكاية النوى الشخصي في انتقامٍ، يُفصِّله فاتح أكن بتأنٍّ شديدٍ، وبتبرير حكائي يتحاشى تبسيط دراميته الثرية. فبعد مشهديات المحكمة، وانهيار القضية، إثر إصرارِ قضاةٍ على أن الحادث تداعٍ لصراعٍ مافياوي تركي، مفلتين التهمة السافرة عن عصابات اليمين الألماني، لا يبقى أمام المرأة المكلومة سوى رفضها الحاسم في أن زمنها قد توقّف، لتندفع في خطو فردي نحو قصاصها، وتوكيد عقيدتها الأسرية.
يعزل فاتح أكن بطلته عن محيطٍ صارخٍ بأنانيته ونفاقه وعنصريته، رغم مساندة الأصحاب والأقرباء. إنها كائن مرتهن إلى معادلة ناريّة: هي، بعنفوانها الأموميّ، مقابل "كارتل" يميني منظّم ومدعوم. لن تتعامى كاتيا عن حقيقة "جريمتها" المقبلة، بيد أن اللا إنصاف يبرّر لها قدرها. ما يفعله أكن، هنا، هو أسلوبية ثنائية تنتقل بين مَشاهد خلوات بطلته، التي صوّرها راينر كلاوس في تعاون مستمر مع صاحب "حافة الجنة" (2007)، ضمن لقطات عامة لفضاءات مفتوحة، وهي تسير في أسواق أو شوارع أو حقول، للإيحاء بإقصاء ذاتيّ، وبين لقطاتٍ أسرية مُصوّرة عبر هواتف نقّالة، تبادلها الزوجان عن يومياتهما، تستعيدها كاتيا لتشحن ضيماً لا يغفره سوى دمّ مقابل.
فهل تملك جساراتها وتمكّنها من إنجاز طويّتها؟ سيكون من العبث سرد مفاجأة فاتح أكن لبطلته. لكن المؤكّد أن هذه الشابة الأوروبية تمثِّل وجهًا مستدامًا لصراعٍ مُعقَّد، يقوم على نوايا ناقصة الضمائر، وعداوات حيوانية، يتعاظم اليوم عدد موقدي نيرانها، وسفّاكي دمائها.
اقــرأ أيضاً
في المشهد الختامي، تكشف كاتيا عن نبلها وإنسانيتها وتعريفها الخاص بالأخلاق والعدالة. هي روح بلا شفيع، وعصيّة على التصنيف. نشاهدها ـ في بداية الفيلم ـ امرأة عادية، ونراها ـ في نهايته ـ عنواناً لخراب الآخرين ولخياراتها الشخصية في آنٍ واحدٍ. كابدت وزر مسيِّرين لعصابية رثّة وصدامية، لن تتوانى عن الهجوم على زمرتها في مشهد المحاكمة الصاخب، معلنةً ـ بحدّة ـ عن صوتٍ شعبيّ لا يرتضي ترهيبهم الجماعيّ.
ما تعرّضت له بطلة "في التلاشي" أقرب، من زاويته المجتمعية، إلى معاناة نظيرتها الشابة سبيل (سبيل كيكلي)، بطلة الفيلم الثالث لفاتح أكن، "في الجدار" ـ الفائز بـ"الدب الذهبي"، في الدورة الـ54 (5 ـ 15 فبراير/ شباط 2004) لمهرجان برلين السينمائي الدولي ـ التي حاصرها حيف عام نظرًا إلى تحرّرها الجنسي، وتخطّيها حدود حشمة شرقية تعرّضها لتهديداتٍ بـ"غسل عارها"، وتدفعها إلى الرحيل إلى إسطنبول. وعندما يسعى عشيق سابق إلى إغوائها والهروب معه، تستحيل جدارًا صلدا ضد فرقتها عن عائلتها الجديدة.
هذا الانتماء هو ما يُشرك المرأتين، وإن اختلفت وقائعه وتواريخه ومآسيه، جاعلاً منهما ـ بحسب أكن ـ "شخصيتين بديلتين لمخاوفنا وتقمّصاتها العاطفية"، التي تجلّت ـ في حالة كاتيا ـ بفزعها من إفلات القتلة من المجازاة، و"تثبيت تلاشي" صورة أسرتها؛ وفي ذعر الأخرى من الوقوع، ثانيةً، في أفخاخ العدم الشخصيّ، و"استمرار تلاشي" اعتباراتها الأخلاقية.
تتحوّل قنبلة كاتيا وهدفها إلى نقيصة أوروبية، ونكاية سينمائية بـ"لاهوت تطهّر" لاعقلانيّ، آخذ في تضخّم مروّع، يسعى فيها نازيون جدد، بالوسائل كلّها، إلى "تنظيف" أمّتهم من دخلاء، فيما يبرِّر قطاع مقابل ـ تتصدّره الصورة الشاذّة لكاتيا، وهي تحمل "حقيبتها الاستشهادية" ـ ردّ فعله لقطع دابر "أبارتيد" أوروبي متجدِّد وشنيع، يبحث عن "ذبائح عقيمة" لخطايا قديمة.
"في التلاشي" (106 د.) 3 أفلام دفعة واحدة: حكاية آصرة عائلية مبنيّة على توافق عرقي متوازن ومتطامن. والدة ألمانية بيضاء وشقراء، مع عينين شديدتيّ الزرقة. هي سمات فيزيقية أساسية، يصرّ نصّ أكن عليها، لاعتبارٍ مفاده أن العنصريّ في حكايته مهزومٌ قطعًا، وأنه مناصرٌ بلا هوادة لعشقٍ لا يخشى اختلاف سحن وتمايزات اجتماعية. أما الوالد، فهو محام كردي بملامح شرقية وطلّة عصرية. رجل حيوي، يفيض بالحنوّ والالتزام الأُسري، فيما يكون ثالثهما طفلٌ، هو ثمرة منيرة للقاح متنوّع ومتداخل وخصب.
هناك، أيضاً، حكاية تقويض عائلي يحدث نتيجة تفجير، تزرع فتاة غامضة قنبلته، خارج مكتب الزوج نوري، بوجود ابنه روكو. هنا، نتابع محنة كاتيا وهي تراقب ـ مَمْرُورة ـ "تلاشي" حلم بيتها، وموت سلالتها، وغياب أحبّتها.
أخيراً، هناك حكاية النوى الشخصي في انتقامٍ، يُفصِّله فاتح أكن بتأنٍّ شديدٍ، وبتبرير حكائي يتحاشى تبسيط دراميته الثرية. فبعد مشهديات المحكمة، وانهيار القضية، إثر إصرارِ قضاةٍ على أن الحادث تداعٍ لصراعٍ مافياوي تركي، مفلتين التهمة السافرة عن عصابات اليمين الألماني، لا يبقى أمام المرأة المكلومة سوى رفضها الحاسم في أن زمنها قد توقّف، لتندفع في خطو فردي نحو قصاصها، وتوكيد عقيدتها الأسرية.
يعزل فاتح أكن بطلته عن محيطٍ صارخٍ بأنانيته ونفاقه وعنصريته، رغم مساندة الأصحاب والأقرباء. إنها كائن مرتهن إلى معادلة ناريّة: هي، بعنفوانها الأموميّ، مقابل "كارتل" يميني منظّم ومدعوم. لن تتعامى كاتيا عن حقيقة "جريمتها" المقبلة، بيد أن اللا إنصاف يبرّر لها قدرها. ما يفعله أكن، هنا، هو أسلوبية ثنائية تنتقل بين مَشاهد خلوات بطلته، التي صوّرها راينر كلاوس في تعاون مستمر مع صاحب "حافة الجنة" (2007)، ضمن لقطات عامة لفضاءات مفتوحة، وهي تسير في أسواق أو شوارع أو حقول، للإيحاء بإقصاء ذاتيّ، وبين لقطاتٍ أسرية مُصوّرة عبر هواتف نقّالة، تبادلها الزوجان عن يومياتهما، تستعيدها كاتيا لتشحن ضيماً لا يغفره سوى دمّ مقابل.
فهل تملك جساراتها وتمكّنها من إنجاز طويّتها؟ سيكون من العبث سرد مفاجأة فاتح أكن لبطلته. لكن المؤكّد أن هذه الشابة الأوروبية تمثِّل وجهًا مستدامًا لصراعٍ مُعقَّد، يقوم على نوايا ناقصة الضمائر، وعداوات حيوانية، يتعاظم اليوم عدد موقدي نيرانها، وسفّاكي دمائها.
ما تعرّضت له بطلة "في التلاشي" أقرب، من زاويته المجتمعية، إلى معاناة نظيرتها الشابة سبيل (سبيل كيكلي)، بطلة الفيلم الثالث لفاتح أكن، "في الجدار" ـ الفائز بـ"الدب الذهبي"، في الدورة الـ54 (5 ـ 15 فبراير/ شباط 2004) لمهرجان برلين السينمائي الدولي ـ التي حاصرها حيف عام نظرًا إلى تحرّرها الجنسي، وتخطّيها حدود حشمة شرقية تعرّضها لتهديداتٍ بـ"غسل عارها"، وتدفعها إلى الرحيل إلى إسطنبول. وعندما يسعى عشيق سابق إلى إغوائها والهروب معه، تستحيل جدارًا صلدا ضد فرقتها عن عائلتها الجديدة.
هذا الانتماء هو ما يُشرك المرأتين، وإن اختلفت وقائعه وتواريخه ومآسيه، جاعلاً منهما ـ بحسب أكن ـ "شخصيتين بديلتين لمخاوفنا وتقمّصاتها العاطفية"، التي تجلّت ـ في حالة كاتيا ـ بفزعها من إفلات القتلة من المجازاة، و"تثبيت تلاشي" صورة أسرتها؛ وفي ذعر الأخرى من الوقوع، ثانيةً، في أفخاخ العدم الشخصيّ، و"استمرار تلاشي" اعتباراتها الأخلاقية.
تتحوّل قنبلة كاتيا وهدفها إلى نقيصة أوروبية، ونكاية سينمائية بـ"لاهوت تطهّر" لاعقلانيّ، آخذ في تضخّم مروّع، يسعى فيها نازيون جدد، بالوسائل كلّها، إلى "تنظيف" أمّتهم من دخلاء، فيما يبرِّر قطاع مقابل ـ تتصدّره الصورة الشاذّة لكاتيا، وهي تحمل "حقيبتها الاستشهادية" ـ ردّ فعله لقطع دابر "أبارتيد" أوروبي متجدِّد وشنيع، يبحث عن "ذبائح عقيمة" لخطايا قديمة.