في العادة، عندما يخترع سياسي و/أو إعلامي كذبة كبيرة ويطلق حملة لترويجها وتعميمها على أوسع نطاق إعلامي ممكن، مستعيناً بالجيوش الإلكترونية التي باتت أقرب إلى صفة البطالة المقنَّعة، إلى أي مدى يبذل جهده لتصديقها هو، قبل أن يسعى إلى جعل الآخرين يصدقونها فيما بعد؟
أم أنّ الأمر يقتصر على صناعة الكذب وفق آليات صارت معروفة وألفباؤها مكتوبة في سلوك الأنظمة العربية عموماً وأجهزتها الإعلامية خصوصاً؟
هي الحكاية تتكرر، وتصل محطتها إلى بيروت، من بوابة الحراك الشعبي المستمر منذ أيام ضدّ الطبقة السياسية.
تقول الحكاية إنّ قطر تقف خلف الاحتجاجات التي تدوّخ السلطة لأنها وُلدت هكذا، من أزمة النفايات، لا من كروش الطوائف وأحزابها. هي قطر إذاً. غرّد وزير الداخلية نهاد المشنوق على "تويتر"، ملمحاً إلى قطر، ويا للصدف، تلقّف إعلام الاستخبارات السورية وكتاب اليسار البعثي وأبواق حزب الله في لبنان، في غضون دقائق، قوله: "دولة عربية صغيرة تقوم بدور فعال في التمويل والتحريض على التظاهر". وفوراً فسَّروا لنا من تكون "الدولة الصغيرة".
إذاً هناك تحقيق وخلاصات للتحقيق لم يسمع بها أحد إلا المشنوق نفسه. وعلى الرغم من أن إعلام "يسار البعث" يقضي معظم أوقاته في شتم الفريق السياسي الذي ينتمي إليه المشنوق، عادةً، لكن يبدو أنّ للمشنوق شخصياً مكانة ثقة استثنائية عند هؤلاء، فصدَّقوا تغريدة الـ75 حرفاً من دون تردُّد وراحوا وجاؤوا يجترّون شتائمهم لقطر ولما تسمّيه عبقريتهم "الربيع القطري".
طيب، إذا كانت قطر هي من يقف خلف الحراك، ألا يجدر أن يُترجم ذلك في أداء المؤسسات الإعلامية القطرية أو تلك التي تدعمها قطر؟ أليس من المنطقي أن يُبلور الموقف القطري ببيان؟ بموقف؟ بتصريح رسمي؟ أكثر من ذلك، فإنّ جردة سريعة على أداء وسائل الإعلام القطرية، أو تلك المحسوبة على الدولة الخليجية، تُظهر تردداً أو "تغطية واقعية" للحدث البيروتي ربما لعلمها بتعقيدات السياسة اللبنانية التي يمكنها أن تُحبط أكبر ثورة وأشرس انتفاضة جماهيرية.
اقرأ أيضاً: الإعلام اللبناني منقسماً بين السلطة والشعب
هي الحكاية تتكرر مع قطر من تحرك شبابي اجتهد على "فيسبوك" لجمع بضعة آلاف
الدولارات من التبرعات لتأمين الكلفة الأساسية لتحركاته من صوتيات ومرئيات ولافتات... لكن يتأكد المراقب للحملة منذ أسبوع، أن النظام اللبناني بألف خير فعلاً، إذ لا تزال عقوله المؤامراتية المدبِّرة بعافية وسلامة بدليل سرعة استنفارها للقيام بثورة مضادة أدواتها إعلامية بالأساس: من مانشيت "مَن أطلق الكلاب؟" على صدر صحيفة البورجوازية اليمينية الفرانكوفونية، للإشارة إلى حشود المتظاهرين في وسط بيروت، مروراً بأدوات التخوين والعمالة لإسرائيل والتدرب على العمالة في صربيا والزواج من إسرائيلية (عيّنة عن التهم الموجهة لمنظمي الحراك من شباب الجتمع المدني). تأخذ الحملة استراحة وتتبنّى نكتة أن حزب الله يحرّك الناس، لتضرب النكتة نفسها بنفسها بسرعة قياسية بعدما لجأ حزب الله نفسه، أو "الأهالي"، أي ناسه مجهولو الهوية طبعاً، إلى التهديد والوعيد ومنع برامج تلفزيونية مباشرة على الهواء بعد رفع صورة أمينه العام من ضمن لائحة فاسدي سياسيي الطبقة الحاكمة في ساحة تجمع المعتصمين.
كان يجب تغيير الموجة، ليتم رفع العيار واستنفار رجال الكنائس المسيحية للدعوة إلى "الاستقرار"، أي الاسم الحركي للركود وللتطبيع مع الوضع القائم، أي باختصار، دعوة لعدم التغيير. كل ذلك لا يكفي، فوجب الضرب على وتر التحريض الديني عبر استحضار تعليقات وتغريدات قديمة لرموز الحراك هي أقرب إلى النكات حول أعياد دينية، وكأنّ من عثر عليها فتح الأندلس واكتشف البارود. من يدري، غداً قد تمتلئ صفحات مواقع التواصل والصحف الصفراء بفصول من الحياة الشخصية لكل من يتظاهر ويحرك "حزب الكنبة". هذا في طفولته سرق لوح شوكولاتة من زميله الطفل على مقاعد الروضة، وذاك طلّق زوجته، وتلك أحبّت من غير رضا أهلها...
لكنّ العقل المدبّر للجيش الإلكتروني يجب أن يُحاسَب من معلميه لتأخره عن زجّ اسم قطر في الحراك بما أنّ العقل غير القادر على استيعاب ديناميات تحرُّك الغضب في المجتمعات، يستسهل رمي جهله على اسم حركي بالنسبة له عنوانه منذ فترة: قطر.
أغلب الظنّ أنّ قطر ليست حزينة إزاء حملة العلاقات العامة المجانية التي يقودها لمصلحتها كارهوها، فالمثل الشهير يقول "صيت غنى ولا صيت فقر". الترويج اليوم بأن قطر تقف خلف كل ما يحدث في العالم ليس سوى تعبير إعلامي عن عجز معرفي وإيغال في المنطق المؤامراتي للأنظمة التي أطاحتها الثورات العربية، والتي عاد بعضها بفضل الثورات المضادة.
في العقل الباطني لمشوِّهي الحراك ومصانع الشائعات ومروّجيها في الإعلام الكلاسيكي و"النيوميديا"، عجز عن فهم لكيفية تحرك الناس عندما تصبح الظروف غير قابلة للاحتمال وفق نظرية كارل ماركس عن الرفّاص الذي كلما يُداس بضغط أكبر، تكون قفزة الرفاص أعنف.
اقرأ أيضاً: الفنانون اللبنانيون وقود الثورة المضادة: المتظاهرون عملاء وفوضويون