على مدار الأشهر الماضية، كان هناك انفجار حقيقي في المساهمات العلمية النقدية التي تهدف إلى فهم الاستجابات السياسية لوباء كوفيد -19، ومن هذه المساهمات المحاضرة التي ألقاها أحمد الدردير أمس افتراضياً ضمن البرامج الأكاديمية والمحاضرات التي ينظمها "معهد القاهرة للعلوم الحرة" (سيلاس)، وعنوانها "كوفيد-19 والهيمنة: شبح ميشيل فوكو".
ناقش الكاتب في محاضرته، ليس فقط صاحب "حفريات المعرفة"، بل تطرق إلى المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين وآخرين. ينضم الدردير إلى باحثين آخرين تناولوا كوفيد -19 وعلاقتها بأفكار فوكو في بلدان مختلفة من العالم مثل اللبناني ماثيو حنا إلى جانب دراسات أخرى نشرها الباحثون جان سيمون وكريستوف شيمان وكلير أوفاريل وتودور خريستوف وغيراسيموس كاكوليريس في منصات مختلفة وآخرين.
قبالنسبة إلى التأمل وتفكيك أزمة كورونا من منظور فوكو، فإن هذه العلاقة ترى بأن الوضع الحالي الذي يعيشه العالم اليوم هو أحد الأمثلة التي يتم فيها الجمع بين عناصر السيادة والانضباط والسلطة الحيوية والسياسة الحيوية.
وبالعموم فإن "مثلث" فوكو للسيادة والانضباط والحكم الذي قدمه في محاضرته عام 1978، يطرح مسألة السلطة الحيوية التي تعالج رفاهية السكان وتم تنظيمها من خلال قرارات حول "العيش" و "الموت"، وهذا يعني أن معظم استجابات الدولة للفيروس تم تبريرها بمصطلحات السياسة الحيوية، والضرورة الشاملة التي تقضي بإبقاء أكبر عدد ممكن من الناس على قيد الحياة.
معظم استجابات الدولة للفيروس تم تبريرها بمصطلحات السياسة الحيوية
من أبرز الوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الغاية العامة الأدوات المألوفة لسيادة الدولة كالأوامر والمراسيم التي تحظر أنشطة معينة، وتطلب أخرى، وإقرار (أو تعليق) القوانين من أجل ضمان أن هذه تكون الإجراءات مشروعة قانونًا ودستوريًا أو ممولة بشكل كافٍ. تم استدعاء الشرطة والحرس الوطني وفي بعض الحالات حتى الجيش لفرض القيود، ونشرت هذه الأدوات السيادية بالمعنى السياسي الحيوي الواسع، لو استخدمنا مصطلحات فوكو.
كما أن الطابع التأديبي لبعض هذه الإجراءات واضح إلى حد ما، خاصة في حالة الحجر الصحي (الكلي أو الجزئي)، تعمل السلطة التأديبية في جوهرها على أساس إدراك رؤية الفرد للسلطات. حتى حين لم تفرض حالة من الإغلاق التام الذي قد يتخذ شكل حظر تجول صارم، فإن القيود الجزئية تشير بالفعل إلى تشديد المراقبة والسلطة التأديبية.
هناك قضية أخرى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسلطة التأديبية تتعلق بالفئات العمرية للأطفال والشباب التي يجب السماح لها بالعودة إلى المدرسة. يبدو أن إحدى نقاط الاتفاق هي أن الأطفال الصغار جدًا غير قادرين على الحفاظ على التباعد الاجتماعي داخل أماكن الرعاية النهارية. يشير هذا بشكل مباشر إلى حقيقة أن تأديب الجسد هو عملية طويلة وتدريجية ترافقنا طوال سنوات طفولتنا والمراهقة. إن القدرة على التحكم في الحركات الجسدية والاستعداد لطاعة الطلبات ذات السلطة للقيام بذلك، هي شروط مسبقة لأداء "التباعد الاجتماعي"، ولا يتم اكتسابها إلا من خلال التكييف الطويل في المدارس والمؤسسات التأديبية.
هذا التحول إلى الخبراء هو جزء من "عملية طويلة الأمد ودائمة لإضفاء الطابع الطبي على السياسة"
كذلك ثمة إشارة أخرى مفادها أن منطق الانضباط وتدابير مكافحة فيروس كورونا هو الخطاب الذي استخدمه بعض السياسيين والمعلقين، والذي يشير إلى أن تشديد إجراءات الحجر الصحي سيعتمد على مدى طاعة الجمهور. الفكرة التي تتم صياغتها بشكل صريح أحيانًا، "نحن نراقبكم!" هو مثال كلاسيكي على السعي إلى نقل المسؤولية الكاملة عن العقوبات أو القيود إلى من هم تحت المراقبة. علينا أن نقبل فكرة أنه إذا تم تشديد الإجراءات أكثر، فليس لأن قادة الدولة اتخذوا القرارات بأنفسهم، ولكن بسبب القرارات السيئة التي اتخذها الشعب الواقع تحت المراقبة.
هذا التنصل من المسؤولية الرسمية عن القرارات المتخذة يتم ضمانه أيضًا من خلال السمة المميزة لكل من السلطة التأديبية والأشكال المختلفة للسياسة الحيوية: وأولها قاعدة الخبراء، والتي تعني في سياق كوفيد -19 إلى حد كبير علماء الأوبئة وعلماء الفيروسات.
كثيرًا ما يتم استدعاء هؤلاء الخبراء باعتبارهم سلطات لا جدال فيها، والتي "تتبع الحكومة نصائحها فقط" على الرغم من حقيقة أن الخبراء أنفسهم أكدوا بشكل روتيني على حدود معرفتهم وضيقها في ما يخص الفيروس. ومع انتشار الوباء، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الخبرة غير موجود. هذا التحول إلى الخبراء هو جزء من "عملية طويلة الأمد ودائمة لإضفاء الطابع الطبي على السياسة" و"تسييس الطب واستثماره في مهام الرقابة الاجتماعية.