"لا جامعة ولا عربية"
لعل أبلغ توصيف لجامعة الدول العربية هو ذاك الذي أطلقه السياسي الفلسطيني الراحل، أحمد الشقيري، مرة، إذ وصفها بأنها "لا جامعة ولا عربية". قال ذلك في عصر ألق الجامعة وعنفوانها، يوم كان أمناؤها العامون من كبار "الباشوات"، وكانوا، حقاً، كباراً في الإيمان بالعروبة، وكباراً في الدفاع عنها آنذاك، على الرغم من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فماذا سيقول لو قدر له أن يظل حياً إلى اليوم، حيث تحول أمين عام الجامعة، المؤتمن على أهدافها، إلى مجرد موظف صغير تابع لوزارة خارجية مصر؟ وماذا سيكتب إذا عرف أن الجامعة صمتت عن إدانة الحرب، التي شنتها إسرائيل على غزة، ولم تتحرك الا بعد أن جاءها الفرج بعد ساعة من إعلان المبادرة المصرية، حيث دعت إلى "ضرورة الالتزام بهدنة 2012 ، ووقف إطلاق النار وحماية المدنيين"؟
هنا، الحق يقال، بشّر أمين الجامعة، نبيل العربي، أهل غزة بأنه قادم لزيارتهم، والخير قادم بعده في "عملية إعادة إعمار"، لما خربته الحرب!
رصد هذا الموقف ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي في جامعة برينستون، فوصفه بأنه "مثير للتهكم والسخرية". مواقع للتواصل الاجتماعي رصدت تصريحا آخر للعربي، زعم فيه أن اتصالاته، في أثناء حرب غزة، مع دول أميركا الجنوبية، أثمرت عن مواقف إيجابية لصالح الفلسطينيين. أحد المغردين قال: "إذا كان ذلك قد حدث بفعل مكالمةٍ هاتفيةٍ من العربي، لماذا لم يهاتف القادة العرب أيضا؟". آخر اعتبر تصريح العربي نكتة الموسم!
وبالعودة إلى الراحل الشقيري، ما تُراه سيقول إذا عرف أن أميناً عاماً للجامعة تذكّر فجأة أن هناك عضواً مؤسساً للجامعة اسمه العراق، وأن وزارة جديدة على وشك أن تتشكل فيه. لذلك، قرر تشكيل وفد برئاسته طبعاً، وعضوية وزيري خارجية الكويت والمغرب، للسفر إلى بغداد "للتعرف على آخر مستجدات الساحة"، وبالطبع، لتقديم التهنئة لرئيس الوزراء الجديد، ولحكومته، التي لم تولد بعد، ولم ينس العربي أن يجعل الزيارة مفتوحةً لمن شاء من الوزراء العرب!
وكان قد أهمل سابقاً وصية نادرة لممثل الجامعة الأسبق في بغداد، مختار لماني، لا تزال محفوظة في أدراج الجامعة، لم يلتفت إليها نبيل العربي، ولا سلفه عمرو موسى، تلك التي تقول بضرورة "تغيير طريقة التعامل مع العراق، لأن حالته معقدة، ومرشحة لمزيد من التعقيد"!
هنا أيضا، الحق يقال، ان العربي نظم قمة "تاريخية" في بغداد عام 2012، لم تثمر سوى عن مزيد من الفـُرقة العربية، فضلاً عن صرف مليار وربع المليار من الدولارات، بشهادة اللجنة المالية في البرلمان العراقي، التي تحدثت عن شبهات فساد وإفساد.
في حينها، وصف سياسي عراقي، التقى العربي، وقت القمة، بأنه "رجل لا يحل ولا يربط"، ومعناه أنه لا يقدم ولا يؤخر، وقد كان السياسي العراقي منصفاً في وصفه، لأن العربي لم يحرك ساكناً بخصوص الوضع العراقي المليء بالتعقيدات، لكنه سوف يظل بالتأكيد شاهداً على أشياء لم يفصح عنها لأحد، وربما سيكتب عنها عندما يتقاعد، أي عندما تتحول مذكراته إلى غنيمة مادية.
وللتاريخ، فإن لعنة بريطانيا التي رافقت الجامعة عند ولادتها عام 1945 قد تكون هي التي شلت حركتها، وأورثتها العجز عن معالجة المشكلات الحساسة، التي عانى منها العرب، وسلبت قدرتها على مواجهة التحديات المصيرية التي حاقت بها، وأن الأمين العام لم يستطع الخلاص من هذه اللعنة.
وبريطانيا، كما قد لا يعرف كثيرون، هي التي أنشأت الجامعة، في حينه، بهدف تطويق فكرة إقامة الدولة العربية الواحدة، التي كانت تراود العرب، وقد اعترف أكثر من مسؤول عربي، ممن وقعوا على شهادة ولادتها، بأنهم رضوا بالحصول على "نصف الرغيف"، بدلاً من الرغيف كله، نتيجة الظروف، التي كانت قائمة آنذاك، والتي لم تكن تسمح بسقف أعلى.
هكذا ولدت الجامعة العربية أشبه بكيان هجين مقعد، لم يستطع الوقوف على قدميه، على الرغم من محاولات سعت إلى تطويره وإغنائه، ووصل الأمر، في السنوات الأخيرة، إلى تحوُّل هذا الكيان إلى مجرد مكتب صغير، تابع لوزارة خارجية مصر، يأتمر بأوامرها ويزكّي قراراتها، ويتبنى مبادراتها من دون نقاش، وينطبق عليها وصف الشقيري بحق بأنها "لا جامعة ولا عربية"، ولم يعد المواطن العربي معنياً، لا بها ولا بأخبارها.