بسبب الديون المتراكمة التي قادت والده إلى السجن، ترك تشارلز ديكنز المدرسة واضطر للعمل في أحد المصانع، ورغم مواصلة تعليمه بعد انقضاء محكومية الأب إلا أنه عاد وانقطع مرة أخرى لكن بمنظور مختلف نحو العالم كشخصية مركبة نالت القسوة منها كثيراً، وجعلته يفكّر بالبؤس والحرمان بطريقة مختلفة.
تقاطعت حيوات عدّة أبطال في روايات الكاتب الإنكليزي (1812 – 1870) مع سيرته الذاتية، كما يرى بعض النقاد، الذين يشيرون إلى شبه بالغ بينها وبينه، وبينها وبين أناس ربطته بهم علاقات وثيقة، مختبراً تجارب حقيقية ومكثفة عاشها وخيّمت على معظمها المأساوية والحزن.
"لغز تشارلز ديكنز" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً عن "منشورات أتلانتيك" لكاتب السير البريطاني أ. ن. ويلسون، ويتتبع فيه واحدة من أبرز شخصيات العصر الفكتوري تاركاً وراءه أكثر من أربعين عملاً روائياً وقصصياً ومسرحياً، ويخيّل لكثيرين أنه لم يرحل في الثامنة والخمسين من عمره فقط.
يرصد المؤلّف الأحداث الرئيسية التي واجهها صاحب "قصة مدينتين" وتسرّبت إلى كتاباته، بحسب اعترافاته الموثّقة، مثل أوليفر تويست الذي عانى مثله من طفولة بائسة لكنه لم يصبح رجلاً يتمتع بالاحترام والتقدير في مجتمعه بل حظي بشعبية عالية، إذ تشير المصادر التاريخية أن ديكنز كان يتمشّى في شوارع لندن يلقي عليه السلام كلّ من يراه، في زمن لم يكن سهلاً أن ينال المرء شهرة أكثر من التي تستحقها كتبه.
يدرس ويلسون الفقر والألم الذي عانت منه شخصياته، بما في ذلك فضيحة زواجه الفاشل التي انعكست أيضاً في أعماله بصورة أو بأخرى، لافتاً أن أن كل مشاعر الغضب والاستياء اللذين أحسّا بهما تجاه والدته أولاً، ثم زوجته، ألهما أعظم رواياته، وجعلت منه شخصية قاسية وعاطفية في آن.
ويوضّح أنه بالرغم من الإرهاق الشديد الذي أصابه بسبب جولته الطويلة في الولايات المتحدة، والتزامه بجدول طويل من القراءات على مسارح إنكلترا من اجل الحصول على مكاسب ضخمة، إلا أنه رفض التوقّف عن القراءة حتى أصيب بجلطة قبل أقل من عام من رحيله، مبيّناً أن المال وحده لم يكن الدافع الوحيد وراء ذلك إنما لأنه أدمن على استجابات الجمهور له، ولم يعد ممكناً الإفلات منها.
لا يكشف الكتاب أسراراً جديدة حيث تبدو معظم هذه الوقائع معروفة لمتابعي ديكنز، ومنها علاقة الحب السرية التي جمعته بالممثلة نيللي تيرنان وجعلته يتصرّف كفتى في الثامنة عشر يفرط في المشاعر والعلاقة الحميمة، التي يعتقد أنها كانت عاملاً إضافياً سرّع الموت إليه.