"لوكيشنات" الحب

18 نوفمبر 2015

عدوية أضاف لوكيشن جديد إلى لوكيشنات الغناء بالعربية

+ الخط -

ليست ممارسة الحرية أمراً سهلاً في أوطاننا، حتى في الغناء. ولذلك، ستجد، بعد قراءة تاريخنا الغنائي، أن المطرب الوحيد الذي امتلك الشجاعة الكافية، لكي يدعو محبوبته لزيارته في بيته، كان مطرباً من خارج المؤسسة السائدة، هو الفنان الاستثنائي أحمد عدوية، متعه الله بالصحة، حين غنى قائلاً: "اعمل جِميل يا جَميل وتعال يوم زورني".

حتى العظيم سيد درويش الذي كان رمزاً للتمرد الفني الحقيقي، وعلى الرغم من غنائه أغنيات درامية شديدة الجرأة، ترد فيها عبارات مثل: "وفجأة خدت لي بوسة"، و"شفّتي بتاكلني أنا في عرضِك"، و"حَرّج عليا بابا ما أروحش السينما وأقابلك فيها"، إلا أنها ظلت جرأة مرتبطة بحدود المجال العام، و"زخانيقه" الصالحة لممارسة الحب على خفيف، أو على حد تعبير مرشحة حزب النور، "حُبّ البوس لا الكبس"، ولذلك لم يستطع توجيه دعوة واضحة لمحبوبته لتزور شقّته، فغنى: "زوروني كل سنة مرة حرام"، لكي يخرج نفسه من شبهة التورّط في زيارة حسية، يمكن أن تجلب له المتاعب في زمنه، خصوصاً أن أغنيته لم تكن مرتبطة بسياق دراما مسرحية ما. ولذلك، أعطى الزيارة صيغة جماعية: "زوروني"، في زمن لم يكن فيه الجنس الجماعي و"حفلات الأورجي والجانج بانج"، والعياذ بالله، جزءاً من خيال الناس الجمعي، بما فيهم بعض الدعاة السلفيين الذين يمكن أن تلاحظ تأثير الأفلام الجنسية على خطابهم الوعظي الذي يربط أي حديث عن الحرية، بالرغبة في ممارسة الجنس الجماعي، مع أن التجارب أثبتت أن ممارسة أي عمل جماعي في مصر محكوم عليها بالفشل مقدماً.  

ومع أن كوكب الشرق أم كلثوم، بكل جبروتها الفني، لم تجد حرجاً في غناء كلام جريء، جلب لها انتقاد المحافظين، وغضب مشايخ المساجد، مثل: "خدني في حنانك خدني"، إلا أنها لم تجرؤ على تحديد المكان الذي يمكن أن يتم فيه ذلك "الأخد"، فقالتها هكذا في المطلق: "خدني"، مع أن "الأخد في الحنان"، أو "الحنان في الأخد"، له تبعات اجتماعية في مجتمعنا، تجعله أمراً غير مأمون العواقب، إلا إذا تم في "مُكنة" حاضنة مناسبة له. وحتى حين وجهت "الست" لحبيبها دعوة مشابهة بالفصحى، حين قالت "فتعال أحبك اليوم أكثر"، لم تحدد أيضاً  "تعال أين"، بل قرّرت أن توجه دعوة "تعال" في المطلق، لأن تحديد المكان الذي يمكن أن "يتعال فيه الحبيب، لكي تحبه حبيبته أكثر"، يمكن أن يُمسك عليها دعوة صريحة للرذيلة، وهو درس كان على ما يبدو حاضراً في بال عبد الحليم حافظ، أيضاً، فعلى الرغم من كل علاقاته الوطيدة بأعضاء مجلس قيادة الثورة، جاءت دعوته للحبيب أيضاً في المطلق: "تعال تعال تعال تعال"، مع أن تأمل الأغنية يوضح أنه كان يتحدث عن "مُكنة" محددة، لأنه أردف بعدها: "وإن ما قدرتش تيجي تاني ونسيت زماني ونسيت مكاني"، ما يعني طبقاً لأبسط تحليل سيموطيقي للنص الغنائي، أن الحبيبة (أو الحبيب لهواة النوع) كانت قد جاءت له "أولاني" في مكانه، أو شقته، ولذلك هو يكرر دعوتها له "تاني".

"تعال" أم كلثوم، و"تعالاااا" عبد الحليم، لم يحصلا بسبب الغموض المتعمد النابع من نقص الجرأة، على التأثير الشعبي نفسه الذي حققه محمود عبد العزيز فيما بعد، حين كان محدداً بدرجة أكبر، في أغنيته الشهيرة في فيلم (الكيف)، حين أنشد: "تعال تاني في الدور التحتاني". لكن، مع ذلك ستلاحظ لديه تردداً في كسر "تابوه دخول الشقة"، فالكلام هنا يتحدث عن عموم فضاء "الدور التحتاني"، حيث يقع "بير السلم" مكان العشاق الأكثر تفضيلاً منذ دخول البناء الرأسي إلى مصر، لأسباب عديدة، منها خُلوّه من إمكانية "الجرح" القائمة في السطوح، ومن رائحة عشة الفراخ المنافية للفطرة السليمة. ولاحظ، هنا، أن كلاً من بير السلم والمنور والسطوح، أو حتى عشة الفراخ، أماكن سينمائية عاطفية، استهلكتها السينما المصرية، خصوصاً في زمن الأبيض والأسود. ومع ذلك، لم يجرؤ الغناء العاطفي (لا الدرامي) على تكريسها غنائياً، لأنه بحكم توجهه الدائم إلى الطبقة الوسطى، حامية الفضيلة والأخلاق، يفضل دائماً أن يحوم حول سطوح المعاني، من دون أن يقع في "منور" التفاصيل. 

وحده عدوية الذي أخذ زمام المبادرة، وعبّر عن هذا المعنى الحسي الجميل: رغبة الحبيب الملحة في أن تزوره محبوبته في الشقة، حيث تكون لكل معاني الحب شكل آخر، "اعمل جِميل يا جميل وتعال يوم زورني"، وإذا كنت تجد في دعوته بعضاً من التحفظ، جعله يلجأ إلى استخدام كلمة (جميل)، فعليك أن تتذكّر أن عدوية، كابن مخلص للحارة المصرية، لجأ إلى قليل من دخان التعمية، لأنه يعلم كم المخاطرات التي تمتلئ بها زيارة المحبوبة التي يمكن أن "تتشقلط" على ناصية الحارة، أو على سلالم العمارة، إبّان قدامها، أو إبّان مغادرتها، أو يمكن أن "يتشقلط" الاثنان في قلب الشقة، إبّان خلوتهما العاطفية، حتى لو كانت خلوة بريئة، لا يدخل فيها الميل في المكحلة، ولا تفور كنكة القهوة، ولا يرتطم موج البحر بصخور الشاطئ.

لذلك، لا يمكن للمنصف أن يحرم عدوية من تميزه بتلك المبادرة التجديدية التي أضافت، ولو على استحياء، "لوكيشنا" جديداً إلى "لوكيشنات" الحب في الغناء العربي، (مصطلح "اللوكيشن" لا علاقة له بالانسحاق اللغوي تجاه لغة الفرنجة، فهو استدعاء حتمي لمصطلح "اللوكيشن" بكل دلالاته الفنية والسينمائية)، لكن المشكلة أنه لم يقم أحد، بعد عدوية، بالبناء على مبادرته الفنية، ليظل حضور الشقق كـ"لوكيشن" داخل أغاني "المين ستريم" مقتصراً على الشبابيك في الغالب الأعم، والبلكونات في القليل النادر، وحتى حضور البلكونات في الغناء، ظل مقترناً باستعمالها الخارجي، فلم يتحدّث أحدٌ، مثلاً، عما يمكن أن تفعله الأيادي المحبة خلف سور البلكونة المستور، أو الفورجيه، حتى ولو كان ذلك في بلكونات بعض شوارع المعادي والزمالك، حيث لا يطلب الجيران رؤية قسيمة من تقف مع حبيبها في البلكونة، وبالتالي، لم نشهد أغنيات تتحدث بشكل أكثر تفصيلاً عن الحب داخل فضاء الشقق، أغنيات مثلاً عن: الحب في قلب الصالة، الحب على رُخامة المطبخ، الحب في الأنتريه، الحب داخل الدولاب، الحب على الكنبة، مع أنه لا يمكن أن يعبر عن جمال الحب مكان، كما يمكن أن تعبر عنه كنبة، يلتصق فيها حبيبان، فيُحيلان براحها المحدود إلى نسخة سعيدة وخالية العرق، من (أتوبيس 924 عباسية ـ كفر الجبل).

قبل عقود، كان موسيقار الأجيال، محمد عبد الوهاب، سبّاقاً إلى إدخال الحمّام كـ "لوكيشن" للفيلم الغنائي، في أغنيته الشهيرة: "الميّة تروي العطشان"، لكنه كان متحفظاً في مغامرته الغنائية، فتحدث عن استخدامات صحية وغذائية وجمالية للماء، من دون أن يشير إلى أي استخدام عاطفي أو حسي، مع أن هذه الاستخدامات معلومة للقاصي، وحاضرة في خيال الداني، وحين قرر عبد الوهاب أن يُذعن لقرار مخرجه، محمد كريم، ويصوّر الأغنية  في البانيو، صوّرها بمفرده تحت رغاوي الصابون، من دون أن يسمح لبطلة الفيلم أن تنضم إليه، ولو حتى من دون خلع ملابسها، بل إنه لم يعلق غنائياً على وجودها في الحمام، ولو بكلام عاطفي يخلو من الحسية. ومع ذلك، لم يسلم من هجوم شرس، اتهمه بنشر الانحلال، لأنه قرّر عرض صدره المشعر على الجماهير الغفيرة، ليكون الأصل الذي تحدر منه فيما بعد مطربون من ماركة "شعر الصدر حسين"، على حد تعبير أيمن بهجت قمر.

منذ تلك اللحظة "الوهابية"، لم نشهد أغنية عاطفية يكون الحمام "لوكيشنها"، لا أعني أغنية تقدم جرأة سوقية، كالتي قدمتها أغنية "خش عليا خش نلعب تحت الدش" التي تفتقر إلى الجماليات الفنية، بل أعني أغنية تقدم أبياتاً حسية، لا تخلو من العذوبة، وتقدم اجتهاداً فنياً ما، يعبر عن هذه اللحظة الإنسانية الحميمة، حتى لو حرص شاعرها ومغنيها أن يؤكّدا على أنها مخصصة للمتزوجين، في إطارٍ لا يغضب شرع الله، فيتفاديا الاصطدام بالرقابة وبأصحاب العقول الضيقة، الذين لا يدركون ما تحفل به كتب التراث المعتمدة من غزلياتٍ حسيةٍ شديدة الجرأة، لو كتبها شاعر غنائي، في أيامنا هذه، لنال عريضة اتهام لوذعية، كالتي نالها الكاتب المتميز، أحمد ناجي، أخيراً، على يد وكيل نيابة بولاق أبو العلا، الذي اتهم ناجي بأنه "ينفث شهوة فانية ولذة زائلة"، وأنه "أجّر عقله وقلمه، لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر، خروجاً على عاطفة الحياء"، ولم يكتف وكيل النيابة بذلك، بل خط يراعه سطوراً يعجز عن الإتيان بها الموكلون بكتابة بيانات داعش، حين قال، في وصف ناجي: "المتهم خرج عن المثل العامة المصطلح عليها، فولّدت سفاحاً مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة، وما لبث أن ينشر سموم قلمه بروايةٍ أو مقال، حتى وقعت تحت أيدي القاصي، قبل الداني والقاصر والبالغ، فأضحى كالذباب لا يرى إلا القاذورات، فيسلط عليها الأضواء والكاميرات، حتى عمّت الفوضى، وانتشرت النار في الهشيم".

كل هذه الاتهامات وقعت على رأس أحمد ناجي، لأنه كتب سطوراً حسّية في روايته (استخدام الحياة)، ما جعل قارئاً، يعاني من التهابات حادة في الفضيلة، يتقدم ببلاغ إلى النيابة، يقول فيه إنه حين قرأ تلك السطور منشورة في صحيفة "أخبار الأدب"، "شعر باضطراب في ضربات قلبه، وإعياء شديد وانخفاض حاد في الضغط". وبالطبع، كان ذكاء وكيل النيابة طاغياً، إلى حد أنه لم ينتبه أن اتهامات عريضته، يمكن أن توجه إليه أيضاً، لأنه لم ير في الرواية إلا سطوراً حين وجدها قذرة، لم يتجاهلها ليحرمها من الأضواء، بل ساهم مع مقدم البلاغ، في "تسليط الكاميرات عليها، لتنتشر كالنار في الهشيم".

ولعل قضية كهذه تجعلك تتساءل عما سيجري للقارئ مضطرب القلب، ووكيل نيابة الفضيلة، لو استمعا مثلاً إلى قصيدة تعبر عن مشاعر ملتهبة، يعاني منها حبيب ولهان، يجلس على الكابنيه، متأملاً جسد حبيبته العارم تحت الدش المنهمر، قائلاً لها كلاماً من نوعية: "سالت سوائلي والماء يسيل غاسلاً سوائلي المختلطة بسوائلك، فتعالي نسيل سوائلنا مجدداً، حتى تجف سوائلنا فننجو من السيلان"، وكيف يمكن أن يكون شكل عريضة الاتهام المرفوعة ضد قصيدة كهذه، لو قرر أحد أن يلحنها ويغنيها، ليحتفي بالحمّام كـ "لوكيشن" أصيل للحب. 

كل ما أرجوه، الآن، ألا تكون السطور السابقة قد سببت لك أيضاً اضطراباً في ضربات القلب، لتشكوني لدى وكيل نيابة يكره الشهوات الفانية، واللذات الزائلة، فالأمر كله لا يعدو أن يكون محاولة متعثرة في التنظير الغنائي، وأمنية عابرة بأن يشهد غناؤنا العربي "لوكيشنات" جديدة للحب. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.