"ما تقوم تتطمّن على برلمانك"
(1)
في مساء 22 يوليو/ تموز 1957، كانت قد مرت خمس سنوات على وعد ضباط ثورة يوليو 1952 المصريين بتحقيق حياة نيابية سليمة، من دون أن تشهد البلاد مجلساً نيابياً يعبّر عن إرادة شعبها الذي تتحدث باسمه الأغاني والمقالات والأفلام، معبّرة عن ولاء الشعب للقائد الضرورة الملهم جمال عبد الناصر، الذي تجسّد فيه الشعب، والذي شاءت إرادته، بعد حوالي أربع سنوات من سيطرته على البلاد، ومصادرته العمل السياسي والحزبي والصحافي، أن يكون للشعب، أخيراً، برلمان، تمت تسميته مجلس الأمة.
ليلتها، وقبل ساعات من الانعقاد الرسمي لأول جلسات المجلس، المعبّر عن الحياة النيابية السليمة، استقبل حرس المجلس إشارةً إلى زيارة عاجلة سيقوم بها مسؤول كبير، تم إعلان حالة الطوارئ بين صفوف الحرس، وبعد نصف ساعة، وصل إلى بوابة المجلس جمال عبد الناصر في سيارة عاديةٍ، لا ترافقها حراسة، لكي لا يتعرّف عليه المواطنون في الطريق. كان الزعيم الملهم قادماً لكي يتفقد البرلمان، الذي سيراقبه ويحاسبه، ويحكم باسم الشعب على قراراته وسياساته. دخل عبد الناصر قاعة المجلس، وصعد على المنصة، وسأل مرافقيه عن عدد الميكروفونات واتجاهها واختبر قوتها، ثم طاف بالبهو الفرعوني الشهير الذي كان يراه أول مرة، وخلال تجوّله في أنحاء البرلمان، رأى تماثيل كان قد تم صنعها لزعماء مصر قبل الثورة، فأمر بتخزينها فوراً، لكي تتحقق القطيعة الكاملة مع الماضي الذي قامت الثورة من أجله، لتبقى التماثيل في المخازن إلى الأبد، وليبقى معها حلم الحياة النيابية السليمة الذي ظل حتى الآن وهماً لم تشهده مصر.
(2)
كانت أولى أزمات المجلس النيابي "السليم" معبّرةً للغاية، عن مدى سلامته وعن مستقبله أيضاً، فقبل أن يذهب النواب إلى المجلس أصلاً، نشرت صحيفة الأهرام صباح يوم الافتتاح خبراً عن انتخاب عضو مجلس قيادة الثورة، عبد اللطيف البغدادي، رئيساً لمجلس الأمة بالإجماع، كما نشرت اسمي وكيلي المجلس المنتخبين، اللذين كان أحدهما عضو آخر لمجلس قيادة الثورة، هو محمد أنور السادات، كان الأمر مستفزاً حتى لأعضاء المجلس الذين لا ينتمي أحد منهم إلى فئة "أعداء الشعب". ولذلك، تسبب ذلك الخبر في أزمة حادة تحت قبة المجلس، كما يكشف المحرر البرلماني المخضرم محمد الطويل في كتابه (برلمان الثورة تاريخ الحياة النيابية في مصر 1957 ـ 1977) ـ والذي بدأ كتابته عقب مقتل السادات عام 1981، مطلعا على 750 مضبطة برلمانية، متحرياً الوقائع غير المسجلة بالاتصال بشهودها الأحياء.
بدأت الأزمة، بعد أن انتخب المجلس لرئاسته المؤقتة أحمد صبحي الهرميل، أكبر أعضائه سنا، الذي دعا الأعضاء إلى انتخاب رئيس المجلس ووكيليه، وأعطى الكلمة لأول من طلبها، وهو
الدكتور عبد الغفار متولي، الذي أدلى بكلمة غاضبةٍ، طلب فيها من رئيس المجلس أن يوجه نظر الصحف إلى عدم سبق الحوادث، معترضاً على الخبر الذي نشرته "الأهرام" عن انتخاب عبد اللطيف البغدادي ووكيليه بالإجماع، قبل أن ينعقد المجلس، معتبراً أن ذلك يمكن أن يجعل الشعب يسيء فهم المجلس، ويتصور أن عليه إملاءات، ويبدو أن السادة الأعضاء قرّروا أن يؤكدوا سوء الفهم ذلك، فتجاهلوا ما قاله زميلهم كأنه لم ينطق به، بل على العكس تماماً، صاح العضو محمود العتال، من دون حتى أن يطلب الكلمة رسميا، مطالبا بترشيح عبد اللطيف البغدادي لرئاسة المجلس، ليصيح عضو آخر مطالبا البغدادي أن يقف، ويقول اسمه بالكامل. وقف البغدادي فوراً، وردد اسمه بالكامل، فدوّى المجلس بتصفيق حاد، تخللته أصوات تعلن الموافقة على ترشيحه بالإجماع، ولكي يزداد طين الإجماع بلّة، وقف العضو شوقي عبد الناصر، شقيق جمال عبد الناصر طبعاً، ليعلن أنه طالما كان المرشح لرئاسة المجلس واحداً، فلا ضرورة لإجراء الانتخاب على مقعد الرئيس، ليكون بالتزكية، وحين اعترض العضو محمود جلال، رد عليه شوقي عبد الناصر بحماس شديد، وأيده العضو محمد علي قاسم، فصفّق المجلس لهذا التأييد، ويبدو أن إصرار محمود جلال على التعبير عن رأيه، والذي دعمه بمواد من لائحة المجلس، أربك الجميع، خصوصاً أن أداء محمود جلال كان قوياً، بفضل تمرسه السابق في العمل النيابي، حيث كان عضوا ثماني سنوات في برلمانات ما قبل الثورة. ولذلك، قرّر المعنيون بالأمر تغيير "البروغرام"، ليتقدم مرشحون لمنافسة البغدادي على رئاسة المجلس، لتكون نتيجة "الانتخابات" كالآتي: البغدادي 332 صوتا، محمود فهمي أبو كرورة 7 أصوات، محمد رشاد الحاذق صوت، إبراهيم الطحاوي صوت، ليعلن البغدادي رئيساً للمجلس وسط تصفيق حاد، صاحب كلمته التي أعلن فيها سعادته بانتخابه رئيساً لأول مجلس نيابي يقوم في عهد الثورة المجيدة.
وبعد أن استمع الأعضاء إلى كلمةٍ، ألح في طلبها محمود جلال العضو المتسرّب من حياة نيابية سابقة، ذكّرهم فيها بتاريخ العمل النيابي في مصر، لكي لا يتصوروا أنهم يجلسون في ذلك المكان من فراغ، وطالب رئيس المجلس وقادة الثورة بإتاحة الحرية للمجلس، ليكون خير ممثل للشعب حقاً وصدقاً. وهنا، جاء الرد على كلامه بشكل عملي ومعبّر، حيث قرر العضو محمد فوزي أبو سيف، في كلمته، أن يوجه التحية "إلى السيد الرئيس العظيم جمال عبد الناصر ورفاقه الذين كان لهم الفضل على الشعب المصري الذي أيّدهم في ثورتهم، وسيكون المجلس، بل ونحن لهم جميعاً، درعاً نضحي بحياتنا في سبيل هذه الثورة وأبطالها".
عندما رُفعت الجلسة للاستراحة، اكتملت المهزلة بتوجه العضو إبراهيم الطحاوي إلى رئيس المجلس في غرفته، يعتذر عن مبادرته لترشيح نفسه، ويطلب سحب ذلك. وحين عاد المجلس للانعقاد، أعلن البغدادي طلب الطحاوي سحب ترشيحه، واعتبار الصوت الذي أعطي له باطلاً، ليدور جدل عقيم حول ذلك الأمر، وتكتمل مسرحية انتخاب وكيلي المجلس اللذين سبق الإعلان عنهما قبل انعقاده، وتظهر بعد ذلك نفحات النفاق والتملّق كما وصفها محمد الطويل، حيث طلب العضو إسماعيل كامل عثمان أن يقوم مجلس الأمة بتكريم سيادة رئيس الجمهورية وزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة، ليزايد عليه العضو محمد فوزي أبو سيف، ويطالب بمنحهم عضوية مجلس الأمة الذي يفترض به أن يراقبهم. وترفع الجلسة الأولى للبرلمان بتلك الاقتراحات النفاقية على أساس أن تعود في مساء اليوم نفسه، لسبب لا أظنك ستستغربه، هو الاستماع إلى أول خطاب للزعيم الملهم أمام برلمانه، الخطاب الذي جاء بالأمس ليراقب جودة الميكروفونات التي ستذيعه.
(3)
لم يكن حرص ضباط يوليو 52 على اختيار لفظ "سليمة"، لوصف الحياة النيابية التي يسعون إليها، منفصلاً عن سعيهم إلى توصيف الحياة النيابية التي قضت عليها الثورة بأنها كانت فاسدة
ومعيبة، ولم يكن فيها ما يستحق أن يبكيه الشعب، ولأن "الدوي على الودان أمرّ من السحر"، فقد نجحت "دولة يوليو"، عبر مناهج التعليم والأذرع الإعلامية والثقافية، في أن تنشر بين المصريين، جيلاً بعد جيل، روايتها المعتمدة والوحيدة عن الفساد الكامل للحياة النيابية التي كانت لديهم قبل الثورة، وأن الديمقراطية الحزبية التي شهدتها مصر لم تكن سوى أكذوبة لإلهاء الشعب عن مشكلاته الحقيقية، وأن مجالس النواب التي سبقت الثورة كانت كلها تقوم بعمل تمثيليات سياسية، يتواطأ فيها الجميع مع الملك. وفي مقدمتهم حزب الوفد الذي كانت الأغلبية الشعبية تؤيده. ولذلك، لا خير في حياةٍ نيابيةٍ تقوم على التمثيل الحزبي والتنافس الانتخابي، بل على الانتخابات أن تتم بين من يثبت أنهم ليسوا من أعداء الشعب، ومع أن أغلب هؤلاء كان قد تم رميهم في السجون أو نفيهم إلى خارج البلاد أو حتى إعدامهم "بأمر الشعب"، إلا أن الأمر لم يسلم من غربلة دقيقة لكل المرشحين، تتم تحت سمع وبصر وبطش الأجهزة الأمنية التي تم تطوير أدائها القمعي، لتجعل من أسطورة القلم السياسي المرعب أضحوكة.
وفي ظل بحار من الطنطنة والتهليل والزعيق المستمر في الشعب أن "يرفع رأسه بعد أن مضى عهد الاستعباد"، غرق المصريون في أكاذيب عدم جدوى الحياة البرلمانية القائمة على المنافسة الحزبية والديمقراطية وحرية التعبير، وسلّموا أمورهم للبرلمان المعقّم، الخالي من أعداء الشعب والمواد المعارضة، والذي لن تدخله أبداً قوى "ظلامية رجعية مناهضة لأحلام الشعب المصري، كما يجسّدها، ويعبّر عنها، الزعيم جمال عبد الناصر". ولذلك، أدينت الحياة النيابية والحزبية قبل الثورة، من دون أن يتم تقييمها بشكل عادل ومنصف، فيعرف المصريون أن قصور الأداء النيابي لتلك البرلمانات والأحزاب، كان سببه تدخل القصر الملكي في العمل السياسي بالحل والمصادرة والقمع، ما لم يتح لتلك البرلمانات والحكومات المنبثقة عنها أن تمارس دورها على أكمل وجه، بدليل أنها حين كانت تأخذ فرصتها في العمل، كانت تحقق نتائج مهمة، سرعان ما تثير غضب القصر الملكي، فيلجأ إلى حلها وتعطيل عملها. وبالتالي، لن يكون الحل، أبداً، بمصادرة إرادة الشعب من جديد، بحيث يلعب الرئيس القادم من الجيش دور الملك، بل أن يتاح للآلية الديمقراطية أن تعمل بكامل طاقتها، وليس أن يصور عسكر يوليو للشعب أن العيب لم يكن في تفاصيل إدارة العملية السياسية، بل في العملية السياسية نفسها وآلياتها الديمقراطية والنظام الحزبي كله، وأن الحل يكمن في إلغاء ذلك كله، وتحويل الانتخابات النيابية من صراع سياسي على برامج مختلفة، إلى تنافس بين أناس يتفقون تماماً في الفكر والسياسة والتوجهات، على أن يسمح لهم بالاختلاف على التفاصيل فقط، لتتحوّل المجالس النيابية إلى مجالس محلية، تصب جام غضبها على الوزراء المستجدين، والمسؤولين المساكين الذين لا يرتبطون بعلاقات قوية بالرئيس ومراكز القوة المسيطرة على البلاد.
(4)
بالطبع، لم يكن في مصلحة عسكر يوليو أن تقوم وسائل الإعلام التي سيطرت عليها الدولة بالكامل، قبل أن تؤمّمها بالكامل عام 1961، بتذكير المصريين بالنضال السياسي الذي خاضه آباؤهم وأجدادهم، من أجل تأسيس حياة نيابية ديمقراطية، تجعل الشعب يحكم نفسه بنفسه، وتضع "الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة"، وهو ما جعل مصر تشهد بين ثورتي 1919 و1952 تسعة برلمانات، كان من بينها ما تم إنشاؤه بالتزوير والقمع وإدارة البوليس السياسي، وكان من بينها ما جاء عبر انتخابات حقيقية أقبل عليها الشعب، والأخيرة تعرّضت كلها لحرب شعواء من القصر الملكي، سواء بمعاندة ما يصدر عنها من قرارات، ومحاولة إفراغها من محتواها، أو بالتضييق على نوابها النشطين، أو بتعريضها لقرارات الحل والإلغاء، بتهمة أنها تتجاوز حدودها، وتنازع الملك في سلطاته.
كان ترتيب تلك البرلمانات كالآتي: الأول الذي جاء عقب صراع سياسي طويل، استمر سنوات عقب ثورة 19، تم افتتاحه في 15 مارس/ آذار 1924. ومع ذلك، تعرّض للحل في
بداية دورته الثانية في نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1924، بفضل ثغرة تم زرعها في دستور 1923، ليستغلها الملك فؤاد في إحكام سيطرته على البلاد، لكن هذا البرلمان الذي استمر عدة أشهر فقط كان أسعد حظاً من البرلمان الثاني الذي تم حله في يوم افتتاحه، أي أن عمره لم يتجاوز ساعة واحدة، لأن الانتخابات جاءت ببرلمان وفدي اعتبره الملك صورة طبق الأصل من برلمان 1924. وبعد ذلك، جاء ائتلاف حزبي بالبرلمان الثالث في نوفمبر/ تشرين الثاني 1926، وقد تولّى فيه زعيم الأمة ورئيس حزب الوفد، سعد زغلول، رئاسة مجلس النواب، تاركاً رئاسة الوزارة لعدلي يكن، خصمه السياسي اللدود وزعيم معارضيه، ومع أن ذلك المجلس قام بخطوات تشريعية ورقابية مهمة، فقد تم حله في بداية 1928، بسبب انتهاء الائتلاف الحزبي واستغلالا لوفاة سعد زغلول.
في نهاية سنة 1929، جاء البرلمان الرابع، لكنه لم يُعمّر أكثر من خمسة أشهر، ليعلن قرار حله بعدها، ثم يتم إلغاء دستور 1923، ويعلن الطاغية إسماعيل صدقي، المدعوم من الملك، دستوراً آخر جاء ببرلمان خامس، تمت صناعته على عين إسماعيل صدقي، وبدعم أجهزة أمنه، وبعد نضال شعبي مبهر وملهم استمر سنوات. وفي 1936، عاد دستور 23 من جديد، وأقيمت انتخابات شعبية حرة، جاءت بالبرلمان السادس الذي سيطر عليه حزب الوفد الذي كان زعيمه مصطفى النحاس قد تحوّل إلى أيقونة شعبية، ليتم حل ذلك البرلمان في إبريل/ نيسان 1938، ويعقبه البرلمان السابع الذي تم حله عقب أزمة 4 فبراير/ شباط 1942 الشهيرة، والتي وصلت بالخلاف بين "الوفد" والقصر إلى منتهاه، وأتاحت الفرصة لكثير من أحزاب الأقلية أن تصطاد في المياه العكرة، وتستغل دعم الإنجليز مصطفى النحاس في مواجهة الملك، بتصوير "الوفد" بأنه خان الوطن والشعب، في الوقت الذي كان النحاس قد تبنى فيه رأياً بأن الخطر الحقيقي على الأمة المصرية، يكمن في إلغاء الملك إرادتها، وأنها لن تتحرّر من الإنجليز إلا إذا قامت بحماية الدستور الذي يضمن حكم الشعب المصري نفسه، لتبقى البلاد في خضم تلك المعارك السياسية من دون برلمان، حتى جاء البرلمان الثامن الذي تم انتخابه في يناير/ كانون الثاني سنة 1945، وهو البرلمان الوحيد الذي أكمل دوراته الخمس إلى نهاية سنة 1949، ثم جاءت الانتخابات في يناير سنة 1950 ببرلمان هو التاسع الذي ظل قائما حتى أطاحته ثورة يوليو 1952.
كان مستحيلاً أن تسمح دولة يوليو بتذكير الشعب المصري بكل ما صاحب تلك المسيرة من نضال حقيقي، ولا بأن الدعوة إلى الثورة على الملكية بدأت، أصلاً، من داخل البرلمان في عدة مواقف تاريخية، أعلنها عدد من النواب من مختلف الأحزاب، ولا أن يتم تذكير الشعب بقوانين مهمة حققها البرلمان الوفدي الوحيد الذي أكمل دورته في مجالات التعليم والري والتموين والصحة والسياسة الخارجية، على الرغم من أن ذلك تم في ظل تعرّض الوفد نفسه لأزماتٍ كثيرة، بعد انشقاق عدد من قادة "الوفد" المهمين، وتغوّل جناح فؤاد سراج الدين داخله. ومع ذلك، ظل النحاس قادراً على المناورة والمبادرة، وتجديد دماء الوفد بضم عناصر يسارية ومتمردة عديدة إليه، لكن ذلك كله لم يؤتِ ثماره بسبب احتكام الأزمات السياسية التي تسبب فيها الملك فاروق وحاشيته، والتي أوصلت البلاد إلى طريق مسدود، كان ينذر بانفجار شعبي حاشد، أجهضه قيام العسكر بحركتهم التي وصفها المصريون بالمباركة، لأنها حققت أحلامهم في الخلاص من الملكية الفاسدة.
ومع أن الجيش كان قد وعد الشعب بأن يعود إلى ثكناته فوراً، ليترك لممثلي الشعب تحقيق أهداف الثورة وأحلامها، إلا أن الأمر انتهى نهاية حزينة، بعد تواطؤ "الإخوان المسلمين" وقانونيين منتمين لأحزاب الأقلية، على تحريض قيادات الثورة ضد "الوفد" وغيره من الأحزاب الكبيرة، ومطالبتهم على طريقة "كمّل جميلك" بأن يقوموا بتطهير الحياة السياسية من تلك الأحزاب التي تم تحميلها كل خطايا العهد السابق، وإهالة التراب على سنوات من النضال السياسي والشعبي، ليظهر وكأن تاريخ الحرية والكرامة بدأ مع مجيء العسكر إلى الحكم، ولينتهي الأمر بتخلّص العسكر من "الوفد" وغيره من الأحزاب، ثم بتخلّصهم من "الإخوان" والقانونيين الذين ساعدوهم، ثم بتخلصهم من قوى اليسار المتناحرة والسيطرة على النقابات والصحف، وخنق المجال السياسي، ليصبح الأداء السياسي المسموح به متاحاً فقط تحت قبة مجلس الأمة الذي ذهب الزعيم الملهم ليتفقده قبل افتتاحه.
(5)
كان مجلس الأمة الجديد، كما رأينا، ومنذ افتتاحه، مصنوعاً على مقاس دولة الضباط، وطبقاً لمواصفاتهم السياسية القياسية. ومع ذلك، تسرّب إليه أعضاء خرجوا على النص، كان أشهرهم
النائب أبو الفضل الجيزاوي الذي قدم سؤالاً حول أوضاع المعتقلين السياسيين، رد عليه زكريا محيي الدين، وزير الداخلية وعضو مجلس قيادة الثورة بشراسة، نافياً وجود أي معتقلين سياسيين في مصر. وعلى الرغم من أن النائب راوية عطية حاولت مساندة زميلها الجيزاوي في سؤاله، إلا أن القضية أقفلت بالتجاهل، ليعود المجلس إلى دوره المرسوم، بإقرار القوانين التي كان يحتاج عبد الناصر إلى إصدارها عبر المجلس، بدلاً من أن يعلنها بنفسه مسبوقة بعبارته الأثيرة (باسم الشعب)، ومع أن المجلس لم يخذل زعيمه الملهم في كل ما طلبه من قرارات، إلا أن ذلك لم يمنع الزعيم من إصدار قرار جمهوري بحل المجلس في أغسطس/ آب عام 1958، لتختفي أي مظاهر نيابية، حتى لو كانت صورية من مصر، سبعة أعوام، حيث لم تعد إلا حين قرر عبد الناصر في مارس/ آذار 1964 أنه بحاجة إلى برلمان ديكوري جديد.
وربما لو كان البرلمان الذي أعاده عبد الناصر، في منتصف الستينات، يمثل كياناً شعبياً سياسياً حقيقيا، لقام بمحاسبة عبد الناصر ومراقبته وإيقاف مسؤولين كثيرين عند حدودهم ومنعهم من العبث بالبلاد، ولكان صعباً أن تشهد مصر تلك الهزيمة المذلّة في 1967، لكنه كان برلماناً صورياً مصنوعاً بانتخابات كرتونية، تتحكّم فيها الأجهزة الأمنية، تماماً ككل البرلمانات التي أعقبته في عهدي السادات ومبارك، حيث بدأت تتزايد شيئاً فشيئاً المساحات المسموحة لنواب المعارضة، لكي يضفوا شرعية على القوانين والقرارات التي تخرج دائماً حاصلة على الأغلبية الساحقة الماحقة، ومطابقة لرضا ولي النعم وطلبات حاشيته.
(6)
حين عادت البلاد ثانية إلى برلمان الصوت الواحد في عام 2010، حيث لم يسمح حتى
للمعارضة الكرتونية بأن يكون لها مكان تحت القبة، جاءت ثورة يناير لتطيح حسني مبارك وحكومته وبرلمانه، وشهدت مصر بعد الثورة برلماناً منتخباً حقيقياً لأول مرة منذ حكمها العسكر. لكن المؤسف أن الفائزين فيه، والذين كان أغلبهم من أعضاء جماعة "الإخوان" والتيارات السلفية، حوّلوا جلسات البرلمان إلى مسرح هزلي، ينشغل بأشد القضايا هامشية وإثارة للجدل الشعبي، ورفضوا تمرير قوانين مهمة، كان يمكن أن تساعد على محاكمة المسؤولين المتورطين في القتل وإعادة الأموال المهرّبة وتحرير الإعلام من سطوة الأجهزة السيادية. وساعدت مواقف كثيرة، اتخذوها بالتنسيق مع المجلس العسكري، على إشعال نار الاستقطاب السياسي، وتخييب الآمال التي عقدها كثيرون من شباب الثورة على المجلس، من دون أن يدركوا عنصر الوقت الحاسم، خصوصا عقب الثورات، ليرتبط العمر القصير لذلك المجلس، قبل حله، بقرار من المحكمة الدستورية العليا بشعار "وزير الداخلية قال ما فيش خرطوش يبقى ما فيش خرطوش"، الذي رفعه رئيسه سعد الكتاتني، دفاعا عن "الداخلية" والجيش خلال مذبحة شارع محمد محمود. ولذلك، لم يأسف عليه كثيرون من شباب الثورة والمشاركين فيها حين تم حله.
في الوقت نفسه، وفي ظل عجز المشاركين في الثورة عن تشكيل تنظيماتٍ سياسية قوية تفرض مطالبها بشكل واضح، استغلت أجهزة الإعلام المدعومة من الجيش والأجهزة الأمنية، كل الممارسات الغريبة والصادمة التي قام بها قادة تيارات الشعارات الإسلامية، تحت قبة ذلك المجلس قصير العمر وخارجه، لشن هجوم شرس على الديمقراطية والعمل النيابي والحزبي، وظل ذلك المنطق الكريه يكتسب أرضاً شعبية مع كل قرار خاطئ يقوم به الرئيس الإخواني، محمد مرسي، ومع كل تصريح منفلت، يصدر عن أي مسؤول إخواني أو حليف سلفي. وبعد أن تم عزل مرسي عن الحكم، وجاءت لحظة طلب التفويض الشعبي التي قفز فيها عبد الفتاح السيسي على السلطة، ليصادر على مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة، كان لا بد أن تعود لاءات "لا حرية لأعداء الشعب ـ لا للأحزاب الكرتونية ـ لا لعملاء الخارج ـ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" لتدوي في سماء الوطن، ويتم إخراس وتخوين كل من يطالب بمناخ ديمقراطي سليم تبتعد أجهزة الأمن والاستخبارات عن التدخل فيه، وتشويه كل من يطالب أجهزة الإعلام بعدم تجاوز القانون بناءً على طلبات من يدفع لها ومن يحرّكها، ليبقى المجال السياسي، في النهاية، حكراً على من ينالون رضا الأجهزة الأمنية، ليُصنع من هؤلاء مشروع برلمان على مقاس الزعيم الملهم، لتعيد مصر ذلك الفيلم الهابط من جديد وبحذافيره، على أساس أنه يمكن أن يفضي إلى نهايةٍ سعيدة هذه المرة.
إزاي؟ ما تفهمش!
ـ(فصل من كتابي (فيتامينات للذاكرة)، يصدر الشهر المقبل بإذن الله.