07 نوفمبر 2024
"محاربة أميركا" بخدمة الثورة المضادّة
في القرن الماضي، من خمسيناته وحتى تسعينياته، كان ثمّة كتلتان تحكمان العالم: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي (بعض من روسيا الآن). الكتلة الأولى إمبريالية، توسّعية، ذات استراتيجية واضحة: ناشرة جيوشها في العالم، ناهبة خيراته، وعلى علاقةٍ عضويةٍ مع إسرائيل. فيما الاتحاد السوفياتي، الخارج منتصراً على النازية، كان يقف، قوياً متماسكاً، على نقيضها: يقدّم نموذجاً اشتراكياً حيّاً، يدعم كل الحركات والأنظمة الإستقلالية، المحارِبة للأميركيين ولبقايا الاستعمار الأوروبي، ونصرة قضية فلسطين. وقتها، كانت محاربة الإمبريالية الأميركية فعلاً ثورياً بامتياز.
ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، اعتقد الأميركيون أن أمر الكرة الأرضية انتهى لصالح هيمنتهم الكلية عليها؛ وفشلوا بذلك، إذ لم يحسبوا حساب روسيا الجديدة الباحثة عن نقاط هذا الفشل، لتحتلها احتلالاً مباشراً، من دون مواربة، مثل أوكرانيا وسورية. ولا حساب إيران صاحبة الاحتلال المقنَّع بمليشياتها المذهبية الموالية والعالمة بإمرتها، والتي أصبحت تتقاسم سورية مع روسيا، وتحكم لبنان والعراق واليمن، بمليشياتها وبـ"انخراط" هذه المليشيات في مؤسسات الدولة الرسمية في آن. حكمٌ جدير بمفوَّض سامٍ لدولةٍ إستعمارية، أو بمندوبٍ للباب العالي العثماني. ولا حسبتْ أميركا أخيراً حساب الصين، العاملة من أجل الهيمنة على العالم كله؛ تارة بهدوء عبر بضائعها واستثماراتها هنا، وطوْراً عبر مناورتها العسكرية في محيطها الآسيوي القريب، والهادفة إلى طرد الأميركيين منه.
بمعنى آخر، خيَّبت القوى الإمبريالية غير الأميركية آمال الأميركيين بأن يكونوا وحدهم يحدّدون مصير العالم، فترافقت سياستهم العدوانية الاستعلائية مع نزوعٍ بدأ خفيضاً، ثم تصاعد مع عهد
باراك أوباما، وأخذ كل حيّزه مع دونالد ترامب: نزوع "عودة أميركا إلى الداخل". الروس كانوا السبّاقين من بين مرشحي الهيمنة البديلة، فراحوا يشّجعون على هذه "العودة"، من دون مواجهاتٍ حادّة، طبعاً. يتقدّمون خطوة، ويفاوضون، ثم يتفقون مع الأميركيين، أو يختلفون. ولكن ولا مرة واحدة برفع الخلاف إلى مصاف القطيعة، ومن ثم الحرب. بل كل مرة بـ"تفاهماتٍ" لا نعرف عنها إلا ترجمتها على الأرض. أما الإيرانيون فالأمر مختلف: "يواجهون" أميركا، بعنفٍ أعلى، ولكن بواسطة مليشياتهم "العربية" التي أصبحت "حاكمةً" في بلادها.
والكِباش الأخير بين أميركا وإيران كان خير تجسيد لهذا التفويض المليشياوي. السفارة الأميركية في بغداد، القواعد، الصواريخ، الاستهدافات، الرجال المستعدّون للموت كرمى النووي الإيراني.. كلهم من أبناء شعوبنا. من اليمن إلى لبنان. وقد أتاح اغتيال الجنرال قاسم سليماني التذكير بهذا الدور إلايراني؛ إنجازات سليماني في سورية ولبنان والعراق كانت تتكلم بحزنٍ عن نفسها. وأن يكون قتلَته من الأميركيين، وعلناً، فهذا ما يؤجّج المشاعر المسْتحبَّة التي تعطي أولوية لمحاربة الأميركيين، دون سواها من "المهام الوطنية".
الآن، انظر إلى ما يبدو أنه مفارقة: في إيران نفسها أولاً، ومنذ انتفاضة أسعار المحروقات، والوصف الرسمي لها بأنها "مؤامرة أميركية". وبعد الحشد المليوني الذي حزن على اغتيال قاسم سليماني، اعتقد الحكام بأنهم، بالعاطفة القومية المعادية للأميركيين، يمكنهم أن ينزعوا من الانتفاضة الشعبية مشروعيتها؛ بعدما عاثوا بها قمعاً وتعتيماً. ولكنهم كذبوا ثلاثة أيام على الشعب الإيراني، متنصِّلين من مسؤولية تحطّم الطائرة الأوكرانية، ثم اعترفوا بأن "الحرس الثوري" هو الذي ارتكب هذا "الخطأ"، فثارت ثائرة الطلاب الإيرانيين، ومعهم الشرائح الأخرى المنتفِضة، فضحايا تحطّم الطائرة من الإيرانيين بلغ عددهم 147، عشرون منهم من خيرة الطلاب الإيرانيين المتفوّقين. وليس مهما بالنسبة لهم، لا بل أصبح خادعاً، تغطية هذا الخطأ بشعار "محاربة أميركا"؛ خصوصاً أن أميركا هذه ليست موجودة داخل إيران، فكان تجدّد تظاهراتهم الداعية إلى إسقاط نظام الملالي برمته، والمرشد قبلهم كلهم؛ مع أفعال ذات قيمة رمزية عالية، مثل رفضهم الدَوْس على العلم الأميركي، والمشي بمحاذاته وتجنّبه، أو تمزيق صورة عملاقة لسليماني، أو صور المرشد الأعلى.
في العراق، الأمر أكثر تعقيدا، فمأمورو "الحرس الثوري" من فرق "الحشد الشعبي"، وأمن رسمي موالٍ له، ينقضّون على انتفاضة شعبية عمرها أكثر من أربعة أشهر. قتلوا بوحشية 460 شاباً عراقياً، وجرحوا 25 ألفا منهم؛ واغتالوا وخطفوا وهدّدوا أعداداً لم تحصَ بعد. وكان شعارهم منسوخاً عن الشعار الإيراني الوثير، من أن "مؤامرة أميركية" تقف خلف هذه الانتفاضة. وبعد اغتيال سليماني، والطلب الرسمي العراقي، وطلب الحشد الشعبي معه إلى الأميركيين بالمغادرة، انطلقت تظاهرات في ساحة التحرير في بغداد وفي مدن جنوبية أخرى، تصرخ شعاراً واحداً: "لا لإيران.. لا لأميركا".
في سورية: كلنا يعلم قصة المليشيات الموالية لإيران التي هبّت للدفاع عن عرش بشار الأسد.
ومعها قصة الربط المحْكَم الذي أقامه بشار الأسد وحلفاؤه بين ثورة السوريين وتلك المؤامرة الأميركية الولاّدة، فكان بعض محتلي سورية هم من المليشيات الإيرانية، بعد الاحتلال الإسرائيلي المنْسي في الجولان، وقبل الاحتلالات الروسية والأميركية والتركية. ولكن يبدو أن الاحتلال الأسدي المحلي، الداخلي، بفرقه وجيشه ومليشياته، باتَ مقرونا بالاحتلال الإيراني المليشياوي.. يبدو أنهما صارا، في الآونة الأخيرة، أشد وطأة من أي شيء على سكان منطقة دير الزور وبلداتها، فتحت القصف الأسدي والانتشار الإيراني المسلح، خرج مئات من أهالي الدير بتظاهرات شعارها "لا استقرار ولا سلام إلا بطرد الأسد وإيران". ويقصدون بذلك مساواة الاحتلال الأسدي بالاحتلال الإيراني، وربما أيضاً الردّ على شعار "إخراج اميركا" الذي راج بعد اغتيال سليماني.
في لبنان، اللعبة فيها مزيد الأقنعة. أمين عام حزب الله، المتحكّم بلبنان، حامي نظامه الفاسد والفاشل، والموعود بوراثة سليماني، أطلق مؤخراً، وبموازاة الثورة اللبنانية، شعار "طرد الأميركيين". وهو كان بعد ثلاثة أيام على الثورة اللبنانية، يسحب شبابه من الشارع، ويكرِّر أن هذه الثورة إنما هي أيضا وأيضا من بنات "المؤامرة الأميركية"؛ ومع ذلك، لم يطفئ جذوة الثورة. بل هي تصاعدت وتيرتها بعد فترة ركود. من أية ثغرة يدخل إذن حزب الله ساعتئذ؟ قبيل ذلك، لعب دور الثورة المضادة ميدانياً، فبعث مليشياته إلى خيم المتظاهرين عشرات المرّات، حيث أمعنوا ضرباً وحرقاً وسرقةً، وتحطيماً للأحياء المجاورة، فوق أنه اخترع أشكالا من المناورات، لا تهدف إلا لحماية نظام الطوائف والفساد. واليوم، يستهدف الأميركيين، الذين لا جنود لقتلهم في لبنان (35 جنديا لحماية السفارة)؛ بتعويله على الخطاب "الطبقي"، وتركيزه، مع أصدقائه من اليساريين الممانعين، على المصرف المركزي وحسب، بصفته "أميركي" الجنس، وصاحب نظام الفشل والفساد.. فيما الثورة في مكان آخر.
كان شعار "محاربة أميركا" في زمن مضى من علامات الثورة، وأصبح اليوم من علامات الثورة المضادّة، تتمتْرس قواها خلفه لترسيخ أنظمة الفساد والاستبداد. ولكن، أن يكون شعار محاربة أميركا مسخَّرا لقضية هذه الأنظمة، أن يحميها من الثورة، لا يعني أن الأميركيين حمائم وئام وسلام. بل يعني أن قوى أخرى ليست مع السلام على سوية، تخوض حرب نفوذ من أولئك الأميركيين المختلّة هيمنتهم، فوق حرب السلطة الجائرة على مواطنيها. وشرّها يساوي شرّ الأميركيين، أو شرّ أي أمة أخرى ترى في الشعوب المفكّكة المتصدِّعة باباً من أبواب الارتزاق الإستراتيجي.
بمعنى آخر، خيَّبت القوى الإمبريالية غير الأميركية آمال الأميركيين بأن يكونوا وحدهم يحدّدون مصير العالم، فترافقت سياستهم العدوانية الاستعلائية مع نزوعٍ بدأ خفيضاً، ثم تصاعد مع عهد
والكِباش الأخير بين أميركا وإيران كان خير تجسيد لهذا التفويض المليشياوي. السفارة الأميركية في بغداد، القواعد، الصواريخ، الاستهدافات، الرجال المستعدّون للموت كرمى النووي الإيراني.. كلهم من أبناء شعوبنا. من اليمن إلى لبنان. وقد أتاح اغتيال الجنرال قاسم سليماني التذكير بهذا الدور إلايراني؛ إنجازات سليماني في سورية ولبنان والعراق كانت تتكلم بحزنٍ عن نفسها. وأن يكون قتلَته من الأميركيين، وعلناً، فهذا ما يؤجّج المشاعر المسْتحبَّة التي تعطي أولوية لمحاربة الأميركيين، دون سواها من "المهام الوطنية".
الآن، انظر إلى ما يبدو أنه مفارقة: في إيران نفسها أولاً، ومنذ انتفاضة أسعار المحروقات، والوصف الرسمي لها بأنها "مؤامرة أميركية". وبعد الحشد المليوني الذي حزن على اغتيال قاسم سليماني، اعتقد الحكام بأنهم، بالعاطفة القومية المعادية للأميركيين، يمكنهم أن ينزعوا من الانتفاضة الشعبية مشروعيتها؛ بعدما عاثوا بها قمعاً وتعتيماً. ولكنهم كذبوا ثلاثة أيام على الشعب الإيراني، متنصِّلين من مسؤولية تحطّم الطائرة الأوكرانية، ثم اعترفوا بأن "الحرس الثوري" هو الذي ارتكب هذا "الخطأ"، فثارت ثائرة الطلاب الإيرانيين، ومعهم الشرائح الأخرى المنتفِضة، فضحايا تحطّم الطائرة من الإيرانيين بلغ عددهم 147، عشرون منهم من خيرة الطلاب الإيرانيين المتفوّقين. وليس مهما بالنسبة لهم، لا بل أصبح خادعاً، تغطية هذا الخطأ بشعار "محاربة أميركا"؛ خصوصاً أن أميركا هذه ليست موجودة داخل إيران، فكان تجدّد تظاهراتهم الداعية إلى إسقاط نظام الملالي برمته، والمرشد قبلهم كلهم؛ مع أفعال ذات قيمة رمزية عالية، مثل رفضهم الدَوْس على العلم الأميركي، والمشي بمحاذاته وتجنّبه، أو تمزيق صورة عملاقة لسليماني، أو صور المرشد الأعلى.
في العراق، الأمر أكثر تعقيدا، فمأمورو "الحرس الثوري" من فرق "الحشد الشعبي"، وأمن رسمي موالٍ له، ينقضّون على انتفاضة شعبية عمرها أكثر من أربعة أشهر. قتلوا بوحشية 460 شاباً عراقياً، وجرحوا 25 ألفا منهم؛ واغتالوا وخطفوا وهدّدوا أعداداً لم تحصَ بعد. وكان شعارهم منسوخاً عن الشعار الإيراني الوثير، من أن "مؤامرة أميركية" تقف خلف هذه الانتفاضة. وبعد اغتيال سليماني، والطلب الرسمي العراقي، وطلب الحشد الشعبي معه إلى الأميركيين بالمغادرة، انطلقت تظاهرات في ساحة التحرير في بغداد وفي مدن جنوبية أخرى، تصرخ شعاراً واحداً: "لا لإيران.. لا لأميركا".
في سورية: كلنا يعلم قصة المليشيات الموالية لإيران التي هبّت للدفاع عن عرش بشار الأسد.
في لبنان، اللعبة فيها مزيد الأقنعة. أمين عام حزب الله، المتحكّم بلبنان، حامي نظامه الفاسد والفاشل، والموعود بوراثة سليماني، أطلق مؤخراً، وبموازاة الثورة اللبنانية، شعار "طرد الأميركيين". وهو كان بعد ثلاثة أيام على الثورة اللبنانية، يسحب شبابه من الشارع، ويكرِّر أن هذه الثورة إنما هي أيضا وأيضا من بنات "المؤامرة الأميركية"؛ ومع ذلك، لم يطفئ جذوة الثورة. بل هي تصاعدت وتيرتها بعد فترة ركود. من أية ثغرة يدخل إذن حزب الله ساعتئذ؟ قبيل ذلك، لعب دور الثورة المضادة ميدانياً، فبعث مليشياته إلى خيم المتظاهرين عشرات المرّات، حيث أمعنوا ضرباً وحرقاً وسرقةً، وتحطيماً للأحياء المجاورة، فوق أنه اخترع أشكالا من المناورات، لا تهدف إلا لحماية نظام الطوائف والفساد. واليوم، يستهدف الأميركيين، الذين لا جنود لقتلهم في لبنان (35 جنديا لحماية السفارة)؛ بتعويله على الخطاب "الطبقي"، وتركيزه، مع أصدقائه من اليساريين الممانعين، على المصرف المركزي وحسب، بصفته "أميركي" الجنس، وصاحب نظام الفشل والفساد.. فيما الثورة في مكان آخر.
كان شعار "محاربة أميركا" في زمن مضى من علامات الثورة، وأصبح اليوم من علامات الثورة المضادّة، تتمتْرس قواها خلفه لترسيخ أنظمة الفساد والاستبداد. ولكن، أن يكون شعار محاربة أميركا مسخَّرا لقضية هذه الأنظمة، أن يحميها من الثورة، لا يعني أن الأميركيين حمائم وئام وسلام. بل يعني أن قوى أخرى ليست مع السلام على سوية، تخوض حرب نفوذ من أولئك الأميركيين المختلّة هيمنتهم، فوق حرب السلطة الجائرة على مواطنيها. وشرّها يساوي شرّ الأميركيين، أو شرّ أي أمة أخرى ترى في الشعوب المفكّكة المتصدِّعة باباً من أبواب الارتزاق الإستراتيجي.