في كتابه "مرصد اسطنبول –هدم الرصد ورصد الهدم: تطوّر ثقافة العلوم في الإسلام بعد كوبرنيكوس"، الصادر مؤخّراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يواصل الباحث والمعماري السوري سامر عكاش اشتغاله على نظريات العلوم الوسيطية والحديثة وعلاقتها بالتاريخ الفكري والاجتماعي.
ينطلق صاحب "يوميات شامية: قراءة التاريخ الثقافي لدمشق العثمانية في القرن الثامن عشر" من حادثة غريبة وقعت في مدينة إسطنبول بداية عام 1580، هي هدْم المرصد الفلكي الحديث وإزالة جميع مبانيه وآلات الرصد فيه، فينظر في مفصلية هذه الحادثة ودلالاتها من خلال الإجابة عن أسئلة متعلّقة بأسباب الهدم وتداعياته، وتقدّم قراءة تاريخية جديدة لهذه الحادثة ضمن إطار المستجدات البحثية في تاريخي العلوم والفكر بشكل عام، وتاريخ علم الفلك بشكل خاص، وتبحث في الأسباب الدينية والثقافية التي أدت إليها، وفي تبعاتها العلمية والفكرية، ومدى تعبيرها عن طبيعة العلاقة بين علماء الدين وعلماء الفلك والطبيعة ضمن المجتمع العربي – العثماني.
يوضح عكاش في مقدّمته إلى أنه قارب الحادثة من منطلق نظري، واعتبرها محطة افتراق عن المنهج العلمي الغربي الجديد، "إذ اختار العرب والعثمانيون الثبات على منهجهم العلمي التقليدي، في وقت ظهرت فيه نزعات فضولية علمية في أوروبا قادت إلى انطلاق نهج علمي تجريبي جديد اختلف عن النهج العلمي التقليدي أفقاً فكرياً ومبادئ نظرية وأدوات تحليلية".
يتألّف الكتاب من قسمين؛ الأول يبحث أسباب الهدم، ويناقش رواياته الشائعة، وأهمية مرصد إسطنبول في مسيرة التطور العلمي، ويدقّق في شخصية تقي الدين الراصد من خلال قراءة جديدة للمصادر التاريخية، ويبيّن علاقته بعالِم فلك ومنجّم دمشقي يدعى أبو بكر الصهيوني، ثم يقيم مقارنة بين تقي الدين وعلاقته بالسلطان مراد الثالث من جهة، ومعاصره الراصد الغربي تايكو براهي وعلاقته بالملك فريدريك الثاني من جهة أخرى. وينتقل إلى البحث في الإشكالات الفقهية للرصد والتنجيم بعرض المواقف الشرعية من علمَي النجوم وأحكام النجوم، ويناقش محاولة علماء الدين المسلمين الناجحة والذائعة لتقديم بديل ديني من علم الهيئة الرياضي، ويختم بمناقشة الإرث الفكري لعلم الهيئة الديني الرائج ونظرية انتصار التعصّب الديني التي قدّمها الباحثون لتفسير حادثة الهدم.
في القسم الثاني، "رصد الهدم"، يناقش صاحب "الكونيات والعمارة في إسلام ما قبل الحداثة" (2005) فتوى الهدم وسياقاتها الفكرية والدينية، وتبعات انتشار علم الهيئة الديني وظهور حركات دينية أصولية متشددة وتأثيرها في تطور ثقافة العلم والمعرفة في فترة ما بعد الهدم. ويقدم عرضاً جديداً للكونيات الإسلامية من أجل بيان محورية فكرة مركزية الأرض فيها وسبب التمسّك الإسلامي القوي بها.
ثم ينتقل عكاش إلى عرض كونيات الحداثة القائمة على مركزية الشمس وتداعيات التحول للنظام الكوني الجديد. ويرصد بدايات تعرّف العثمانيين إلى مناهج العلوم الحديثة وتواصلهم المعرفي مع أوروبا من خلال التراجم الأولى المتوافرة للنصوص الغربية والنشاط العلمي قبل القرن التاسع عشر بشكل عام، ثم يناقش حركة التنوير العربي وبداية ظهور خطابَي الخلاف والتوافق بين مقتضيات العلوم الطبيعية ومقتضيات العلوم الدينية. وينتهي في هذا القسم إلى مناقشة إشكالات روايات صعود الغرب من المنظور التأريخي العربي للعلوم، وتداعيات التحوّلات الفكرية والمنهجية للمركزية الأوروبية الجديدة.