ذهب معظم المفكّرين في الغرب، خلال القرن التاسع عشر، إلى الاعتقاد بأن صعود المجتمع الصناعي الحديث ينطوي على تراجع لدور المؤسسة الدينية، وأن التطوّر العلمي يعزّز صعود الدول العلمانية التي تُعلي من قيمة النخب المهنية والتكنوقراط.
في العقود الأخيرة، تنامت مؤشرات معاكسة مع تعاظم الأصوليات والنزعات المتطرّفة في معظم بلدان العالم، والتي دفعت بدورها إلى إعادة التفكير في مقولات فلسفية بدت كحقائق قاطعة حول انتهاء سلطة رجال الدين وتدخّلهم في الشأن العام، طوال أكثر من قرن مضى.
في عام 2004، نشر الباحثان؛ الأميركي رونالد إنغلهارت (1934) والبريطانية بيبا نوريس (1953)، كتابهما "مقدّس وعلماني: الدين والسياسات في العالم"، والذي صدرت ترجمة طبعته الثانية (2011) حديثاً ضمن سلسلة "ترجمان" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ونقله إلى العربية وجيه قانصو وأحمد مغربي.
يقف الباحثان عند مجموعة من الظواهر التي تجتاح العالم مع استمرار شعبية الكنيسة في الولايات المتحدة، وبروز ما يسمّى بـ "روحانية العصر الجديد" في أوروبا الغربية، وتزايد حضور الحركات الأصولية والأحزاب الدينية في العالم الإسلامي، وموجة التبشير الإنجيلي في أميركا اللاتينية، وانتشار الصراعات العرقية والدينية دولياً.
يلفت الكتاب إلى ضرورة تحديث أطروحات العلمانية الكلاسيكية، حيث لم يختف الدين ولا يُحتمل أن يحدث ذلك، وأن المجتمعات الصناعية المتقدمة كانت تتحرّك نحو اتجاهات علمانية، خلال الخمسين سنة الماضية، لكنه في الوقت نفسه يتزايد في العالم ككلّ عدد الأشخاص الذين يعتنقون آراء دينية تقليدية، مع ملاحظة أن انفجارات سكانية حدثت في المجتمعات الأكثر تديّناً وانخفاض معدلات الخصوبة لدى نظيرتها الأكثر تعلمناً.
يعتمد إنغلهارت ونوريس على تحليل مستندٍ إلى قاعدتي البيانات: "استقصاء القيم العالمي" و"استقصاء القيم الأوروبي"، اللتين تم تنفيذهما ما بين عامي 1981 و2001، وتوفران معطيات من بلدان تضم 85% من سكان العالم، وتشمل المدى الكامل للمتغيّرات: من مجتمعات يتدنّى دخل الفرد فيها إلى 300 دولار في العام، إلى مجتمعات يعادل الدخل الفردي فيها مائة ضعف الدخل في سابقتها، ومن ديمقراطيات عريقة تأخذ باقتصادات السوق إلى دول مستبدة ودول اشتراكية سابقة.
تثبت البيانات التي يعالجها الكتاب أن التديّن يواصل تجذّره في المجموعات السكانية الأكثر هشاشة، خصوصاً في الأمم الفقيرة والدول الفاشلة، في الوقت الذي يشير فيه إلى غياب نفس الممارسات والقيم والمعتقدات الدينية بين الشرائح الأكثر ازدهاراً في الدول الغنية.
يرى المؤلّفان ترابط التديّن الوثيق مع مستويات التحديث المجتمعي والأمن الوجودي واللامساواة الاقتصادية، ما ينعكس على نوع الثقافة الدينية السائدة في كل بلد، والتغيّرات في القيم بين الأجيال، وشرائح المجتمع المتعددة، وأنماط التوزع السكاني.
يتضمّن الكتاب اثني عشر فصلاً، هي: "فهم العلمنة"، و"جدال العلمنة"، و"قياس العلمنة"، و"مقارنة العلمنة في جميع أنحاء العالم"، و"لغز العلمنة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية"، و"إحياء ديني في أوروبا ما بعد الشيوعية؟"، و"الدين والسياسة في العالم الإسلامي"، و"الدين والأخلاق البروتستانتية والقيم الأخلاقية"، و"المنظمات الدينية ورأس المال الاجتماعي"، و"الأحزاب الدينية والسلوك الانتخابي"، و"العلمنة وتداعياتها"، و"إعادة تفحّص نظرية الأمن الوجودي"، و"إعادة تفحص دلائل أطروحة الأمن".