"مُفيد الوحش"

13 سبتمبر 2014
اقتنعوا بالحياة التي لم تقتنع بهم، وشرّدتهم(أنور عمرو/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

يتوزّع الأطفال السوريّون تحتَ أشعة الشمس. لكنّها لا تضربهم. تبدو أجسادهم وقد صارت منيعة. نقول إن أطفالنا اللبنانيين سيمرضون حتماً. لن يتحملوا واقعاً كهذا. ننسى أن هؤلاء لم يولدوا على هذا النحو، لكنّها الحرب. جعلت من أجسادهم الطرية حديداً صلباً. أو هكذا نظن قبل أن يفصح المستقبل عما يخبئه لهم.

قليلاً ما يبكون. اقتنعوا بالحياة التي لم تقتنع بهم، وشرّدتهم. لا مكان لهم فيها. وجدوا أنفسهم في لبنان، البلد الجميل كما عرفوه أو سمعوا عنه من أهلهم، حتى الذين لم يزوروه منهم. لم يظنوا حينها أن الأطفال اللبنانيين مختلفون. محلات الألعاب هي نفسها في البلدين. متاجر الثياب أيضاً. والأحلام. لكنهم وجدوا أن المسافة بينهم وبين أطفال البلد الذين نزحوا إليه طويلة. تكادُ لا تنتهي. لا نقطة التقاء في وسطها يمكن أن تقودهم إلى بداية ما. هم "آخرون"، الأجدر إلغاؤهم قبل أن يلغونا. هكذا علّمتنا الحرب الأهلية. تلك التي أتقنت أسلوباً هندسياً يكثرُ من رسمِ الخطوط بين البشر حتى لا يلتقوا.

لم يعتَدْ هؤلاء نظرات الازدراء. هم أيضاً غالون عند أهلهم. هذه مشاعر لا يمكن اجتزاؤها. لا علاقة لها بالجنسية. تُصيب الجميع وتتملّكهم. لذا وجع الأم بفقدان ولدها واحد. والصور خير دليل، تلك التي تكشفنا أحياناً قبل أن نرتب هندامنا.

أرى هؤلاء ولا أستطيع إلا أن أُبيّض مشهد "العنصريّة" الذي فُرض عليهم. أستذكر على الفور سورية "خان الحرير" ومُفيد الوحش" و"يوميات مدير عام" و"أحلام كبيرة". تمكنت شخصياتها من مراهقتي، وصنَعت منها مراهقات لا يلتقين. أختارُ منهن ما ينسجم ومزاجيتي.

في موقفِ الباصات في الشام، حيث كنّا نستريحُ قليلاً قبل أن نُكمل سفرنا إلى السعودية براً، وقد انطلقنا من لبنان أو العكس، كانت فرح، طفلة سورية في الخامسة من عمرها تقريباً، تجلس على مقعد خشبي باهت، وتبتسم لي. رددتُ لها ودّها وابتسمت بدوري. وبعد ساعات من الرحلة، وقد أصبحنا في قلب الصحراء، ركضَت إليّ وعانقتني. كانت لحظة تُسيّرها المشاعر، من دون الحاجة إلى صداقة مسبقة.

لا أعرف شيئاً عن فرح اليوم. ربما تكون هربت إلى لبنان. تحاولُ الاختباء من حمم وباء "العنصريّة" كما كنت أختبئ من نظرات الشباب السوريين في موقف الباصات، تلك التي لم تسمح للمرأة فيّ أن تكبرَ بسلام. كلانا ربما لن يكبر بسلام. هي تسيرُ من حرب إلى لجوء وعنصرية وحرب أخرى. ونحنُ لا زلنا نعبر فوق جثث تركتها لنا حربنا الأهلية. "الآخرُ" فيهم يغزو عقولنا، فنسعى إلى الغائهم. هذا منطقنا. ربما كلانا يحتاج إلى "مفيد وحش". الرجل الذي عاش وسط الوحوش، وعجزت انسانيته عن التغلب عليهم.
المساهمون