30 أكتوبر 2024
"نبع السلام" لن يجلب السلام
ليست فكرة إقامة منطقة آمنة، أو أمنية وفق التسمية التركية الجديدة، على طول الحدود مع سورية جديدة، فقد سعت تركيا إلى تسويق الفكرة منذ سنوات من دون جدوى، لكن الجديد هو تنفيذها في لحظة دقيقة وحساسة، بسبب ما ترتب على تحولات الصراع في سورية وعليها؛ حيث باتت لإقامة المنطقة العتيدة تبعات وانعكاسات كثيرة وخطيرة، ليس من بينها تحقيق السلام، كما تروّج الدولة التركية، الذي وضعته في اسم العملية: "نبع السلام".
ترتبط العملية العسكرية التركية بإعادة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الأمنية التي تريد تركيا إقامتها، في إطار مشروع متكامل، يُؤمل منه أن يُنهي فرص قيام كيان كردي، مهما كانت طبيعته وحدوده، والعمل على تسويق العملية وتبريرها خارجيا بذريعة محاربة الإرهاب، فالعملية العسكرية ليست العامل الرئيس في التصور التركي؛ إنها وسيلة لإجهاض مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي: الإدارة الذاتية، بضرب القوة العسكرية لهذا الحزب، وحدات حماية الشعب، وإجراء تغيير سكاني واسع في المنطقة، عبر إعادة اللاجئين إليها، أغلبهم من العرب، إلى المناطق العربية بشكل خاص، بحيث يصبح عدد العرب في شرق الفرات طاغيا، وتصبح دعاوى الكرد ومطالباتهم بإقليم خاص أو إدارة ذاتية أو فدرالية غير ذات موضوع.
غير أن العملية التركية قد مسّت توازناتٍ جيوسياسية، راهنت قوى محلية وإقليمية ودولية عليها، لخدمة تصوّراتها للحل السياسي في سورية؛ بحيث لا تكون سورية ملحقةً بروسيا وإيران، وهذا مرتبطٌ، إلى حد كبير، ببقاء القوات الأميركية في شرق الفرات، والمحافظة على الإدارة الذاتية ورقة مساومة في إطار الحل النهائي. لذا استثارت ردود فعل غاضبة، عبّرت عن نفسها بمواقف متعدّدة توزعت، بعد إدانة العملية ووصفها بالعدوان والغزو والاحتلال، بين الدعوة إلى وقف
العملية (والانسحاب فورا) والتلويح بعقوبات سياسية واقتصادية وسياحية (قرار وزراء الخارجية العرب)، ووقف توريد الأسلحة (قرار السويد وهولندا وفنلندا والنرويج وألمانيا وفرنسا)، والسعي إلى إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لوقفها (خمس دول أوروبية في المجلس، فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وبولندا)، وتحضير قرار بفرض عقوبات اقتصادية قاسية، فيما لو تجاوزت القوات التركية حدودا معينة، جغرافية وعملياتية، مثل استهداف المدنيين (قرار الولايات المتحدة)، وإدانة العملية والمطالبة بوقفها فورا وفرض عقوبات اقتصادية (قرار الاتحاد الأوروبي)، ورفع شروط الأمم المتحدة ومحدداتها لإعادة اللاجئين في وجهها: العودة الطوعية وعودة أبناء منطقة شرق الفرات فقط إليها التي ستحد من عدد العائدين، وتربط عودتهم بمناطقهم الأصلية، وخروج تظاهرات حاشدة في عدد من الدول الغربية ضد العملية.
قد لا تكون لمعظم هذه الخطوات آثار قريبة وفاعلة على العملية التركية، لكنها تعكس حالة العزلة السياسية التي ستواجهها تركيا والمأزق السياسي الذي ستنزلق نحوه، خصوصا إذا فشلت في الالتزام بالشروط والمحدّدات الأميركية، وعجزت عن الإمساك بملف سجناء الدواعش وأسرهم في المخيمات، وحصول تغيير في الموقف الأميركي في غير صالحها، ما سيضطرها للدخول في مساوماتٍ مع القوى الفاعلة الأخرى، روسيا وإيران، ويدفعها إلى التنازل عن جزء مهم من تصوّرها للمنطقة الأمنية: حدودها وعدد اللاجئين الممكن إعادتهم إليها، روسيا تطالبها بالتنسيق مع النظام السوري، وإيران تريد بقاء طريق الموصل حلب خارج حدود المنطقة الأمنية التركية، فتكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
في العودة إلى التصور التركي للمنطقة الأمنية، بكل تفاصيلها، وما يمكن أن يترتب على إقامتها سياسيا وأمنيا، سنلمس، من دون كبير عناء، أنها أبعد ما تكون عن "نبع سلام"، بل على العكس ستكون بؤرة توتر دائمة ومحرقة، لاستنزاف المنطقة وشعوبها لأجيال قادمة. لعل أول مترتّبات قيامها انفجار التنافس على المتبقي من منطقة شرق الفرات، في ضوء توجه أميركي إلى الانسحاب منها على خلفية وعد انتخابي بإعادة الجنود الأميركيين إلى الوطن، يريد الرئيس دونالد ترامب تنفيذه قبيل انتخابات رئاسية باتت على الأبواب. وروسيا وإيران تنتظران بلهفة انسحاب القوات الأميركية، كل لحساباتها الخاصة، روسيا لتنفيذ قرارها بإعادة سيطرة النظام السوري على كل الأرض السورية، والإمساك بمفاتيح الحل السياسي، مع ملاحظة أهمية المنطقة اقتصاديا، وما يمكن أن تقدّمه من فوائد للتخفيف من أزمات النظام في مجالات المحروقات والحبوب، وإيران لضمان بسط سيطرتها على مساحاتٍ هي جزء من مشروع الطريق البرّي الذي تسعى إلى إقامته من أراضيها إلى البحر الأبيض المتوسط. وانسحاب القوات الأميركية وضرب وحدات حماية الشعب فرصة مثالية لتنفيذ مشروع الطريق، بالإضافة إلى إجهاض التطلعات الكردية في إيران التي حفّزتها الحالة الكردية السورية. وهذا إن تم سيحوّل الحل السياسي وعمل اللجنة الدستورية السورية إلى نافلةٍ لا لزوم لهما، ويدمّر فرص استقرار سورية عقودا طويلة.
أما المترتب الثاني فزعزعة الاستقرار السكاني وإحداث مشكلة متفجرة بين العرب والكرد، علما أن العلاقة بينهما ليست على ما يرام، على خلفية إشراك فصائل الجيش الوطني في العملية،
وتعميق الفجوة بين الطرفين بالمواجهات الدامية، وتجدّد الصراع بينهما على الأحقية بالأرض، وإدارة المنطقة سياسيا واقتصاديا، زعزعة مديدة في ضوء تقديراتٍ بحصول نزوح وهجرة واسعين، وبانخراط أطرافٍ خارجية في الصراع على المنطقة، لاعتباراتٍ سياسية وجيوسياسية وتغذيتها الخلافات والتوترات لإدامة فرص الاستثمار في أزماتها.
المترتب الثالث، وهو الأخطر، إن تحقق التصور التركي بإعادة اللاجئين السوريين لديها إلى المنطقة الأمنية العتيدة هو ولادة سورية جديدة قائمة على فرز مذهبي، حيث سيتكدس العرب السّنة في الشمال والشرق، والعلويون والشيعة، العرب والفرس والأفغان والباكستانيون، في الغرب، وهذا يحقق حلم إيران بتحقيق مكسب جيوسياسي مهم، وسيطرة مفتوحة على الطريق من البحر إلى لبنان، عبر السيطرة المذهبية على المناطق المحاذية للحدود اللبنانية.
المترتب الرابع والأخير، تلاشي مطالب الثورة السورية، وتطلع حواضنها الشعبية إلى الحرية والكرامة، بالقضاء على بقايا التمايز بين أهداف الثورة وأهداف الدول التي استتبعت المعارضة، السياسية والمسلحة، بتحوّل قواها إلى جنودٍ في خطط هذه الدول.
يبقى أن نقول إن مجلس سورية الديمقراطية (مسد) وجناحه العسكري، قوات سورية الديمقراطية (قسد)، قد ارتكبا أخطاء شنيعة، أوصلتهما إلى المأزق الحالي. "مسد"، بسياسته التي تقوم على تصوير مظلومية الكرد أقلية مضطهدة لأسباب قومية ودينية، وفق محاضرة ممثلته في الولايات المتحدة، سينم محمد، في مقر جمعية "مجلس أبحاث العائلة" اليميني في واشنطن يوم
16/7/2019، ما يشي بمغازلتها استراتيجية تحالف الأقليات، والعمل على كسب تأييد سياسي أميركي لمشروعها من خلال التحالف مع اليمين الأميركي العنصري، والعمل على فرض تصوّرها على الشعب السوري، بالاعتماد على التحالف مع أميركا، متجاهلا أن التحالف الراهن تقاطع مصلحي مرحلي، لأن أميركا قالت مرات إنها لا تتبنى مشروعه السياسي. والثانية، "قسد"، بممارساتها، قمع المعارضة العربية والكردية، وإحداث تغيير سكاني في قرى عربية وتركمانية، وفرض تجنيد قسري على سكان شرق الفرات، تحت شعار الدفاع الذاتي، على الرغم من أن معظمهم لا يوافقون على مشروع الإدارة الذاتية، والاستئثار بخيرات شرق الفرات وحرمان أهل المنطقة منها، محافظتي دير الزور والرقة، وهذا جعل التواصل بينها وبين المجتمعات العربية محدودا ومشوبا بسحابات الشك وانعدام الثقة، ومسارعتها إلى قصف المدن والبلدات والقرى التركية مع بداية الهجوم التركي والرد التركي بقصف المدن والبلدات السورية، الأمر الذي أفقدها تضامن أبناء المنطقة، كما عبر عن ذلك بيان أعيان القامشلي في هذا الخصوص، وأضعف حجتها أمام الرأي العام الدولي بتعرّض المدنيين في المدن والبلدات والقرى السورية للقصف التركي.
لن تحقق عملية "نبع السلام" السلام، مع احتمال عدم مواصلتها حتى النهاية، كما تصوّرتها القيادة التركية، لأن تركيا تعاني من نقاط ضعف وهشاشة في أكثر من مجال، ما يسمح للقوى الأخرى بالضغط عليها لدفعها إلى وقف العملية عند نقطة معينة، أو إجبارها على الانسحاب خارج المنطقة، كما لن تنجح "مسد" و"قسد" في هزيمة القوات المهاجمة، أو الحفاظ على مشروعها، بالعودة إلى التفاهم والتحالف مع النظام، فالمسارعة إلى طلب حماية النظام ودعوته إلى إرسال قواته للانتشار على الحدود، وهي تعلم أن في ذلك نهاية لمشروعها، فقد سبق وعرفت شروطه لمساعدتها، ليس أقل من انتحار سياسي.
غير أن العملية التركية قد مسّت توازناتٍ جيوسياسية، راهنت قوى محلية وإقليمية ودولية عليها، لخدمة تصوّراتها للحل السياسي في سورية؛ بحيث لا تكون سورية ملحقةً بروسيا وإيران، وهذا مرتبطٌ، إلى حد كبير، ببقاء القوات الأميركية في شرق الفرات، والمحافظة على الإدارة الذاتية ورقة مساومة في إطار الحل النهائي. لذا استثارت ردود فعل غاضبة، عبّرت عن نفسها بمواقف متعدّدة توزعت، بعد إدانة العملية ووصفها بالعدوان والغزو والاحتلال، بين الدعوة إلى وقف
قد لا تكون لمعظم هذه الخطوات آثار قريبة وفاعلة على العملية التركية، لكنها تعكس حالة العزلة السياسية التي ستواجهها تركيا والمأزق السياسي الذي ستنزلق نحوه، خصوصا إذا فشلت في الالتزام بالشروط والمحدّدات الأميركية، وعجزت عن الإمساك بملف سجناء الدواعش وأسرهم في المخيمات، وحصول تغيير في الموقف الأميركي في غير صالحها، ما سيضطرها للدخول في مساوماتٍ مع القوى الفاعلة الأخرى، روسيا وإيران، ويدفعها إلى التنازل عن جزء مهم من تصوّرها للمنطقة الأمنية: حدودها وعدد اللاجئين الممكن إعادتهم إليها، روسيا تطالبها بالتنسيق مع النظام السوري، وإيران تريد بقاء طريق الموصل حلب خارج حدود المنطقة الأمنية التركية، فتكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
في العودة إلى التصور التركي للمنطقة الأمنية، بكل تفاصيلها، وما يمكن أن يترتب على إقامتها سياسيا وأمنيا، سنلمس، من دون كبير عناء، أنها أبعد ما تكون عن "نبع سلام"، بل على العكس ستكون بؤرة توتر دائمة ومحرقة، لاستنزاف المنطقة وشعوبها لأجيال قادمة. لعل أول مترتّبات قيامها انفجار التنافس على المتبقي من منطقة شرق الفرات، في ضوء توجه أميركي إلى الانسحاب منها على خلفية وعد انتخابي بإعادة الجنود الأميركيين إلى الوطن، يريد الرئيس دونالد ترامب تنفيذه قبيل انتخابات رئاسية باتت على الأبواب. وروسيا وإيران تنتظران بلهفة انسحاب القوات الأميركية، كل لحساباتها الخاصة، روسيا لتنفيذ قرارها بإعادة سيطرة النظام السوري على كل الأرض السورية، والإمساك بمفاتيح الحل السياسي، مع ملاحظة أهمية المنطقة اقتصاديا، وما يمكن أن تقدّمه من فوائد للتخفيف من أزمات النظام في مجالات المحروقات والحبوب، وإيران لضمان بسط سيطرتها على مساحاتٍ هي جزء من مشروع الطريق البرّي الذي تسعى إلى إقامته من أراضيها إلى البحر الأبيض المتوسط. وانسحاب القوات الأميركية وضرب وحدات حماية الشعب فرصة مثالية لتنفيذ مشروع الطريق، بالإضافة إلى إجهاض التطلعات الكردية في إيران التي حفّزتها الحالة الكردية السورية. وهذا إن تم سيحوّل الحل السياسي وعمل اللجنة الدستورية السورية إلى نافلةٍ لا لزوم لهما، ويدمّر فرص استقرار سورية عقودا طويلة.
أما المترتب الثاني فزعزعة الاستقرار السكاني وإحداث مشكلة متفجرة بين العرب والكرد، علما أن العلاقة بينهما ليست على ما يرام، على خلفية إشراك فصائل الجيش الوطني في العملية،
المترتب الثالث، وهو الأخطر، إن تحقق التصور التركي بإعادة اللاجئين السوريين لديها إلى المنطقة الأمنية العتيدة هو ولادة سورية جديدة قائمة على فرز مذهبي، حيث سيتكدس العرب السّنة في الشمال والشرق، والعلويون والشيعة، العرب والفرس والأفغان والباكستانيون، في الغرب، وهذا يحقق حلم إيران بتحقيق مكسب جيوسياسي مهم، وسيطرة مفتوحة على الطريق من البحر إلى لبنان، عبر السيطرة المذهبية على المناطق المحاذية للحدود اللبنانية.
المترتب الرابع والأخير، تلاشي مطالب الثورة السورية، وتطلع حواضنها الشعبية إلى الحرية والكرامة، بالقضاء على بقايا التمايز بين أهداف الثورة وأهداف الدول التي استتبعت المعارضة، السياسية والمسلحة، بتحوّل قواها إلى جنودٍ في خطط هذه الدول.
يبقى أن نقول إن مجلس سورية الديمقراطية (مسد) وجناحه العسكري، قوات سورية الديمقراطية (قسد)، قد ارتكبا أخطاء شنيعة، أوصلتهما إلى المأزق الحالي. "مسد"، بسياسته التي تقوم على تصوير مظلومية الكرد أقلية مضطهدة لأسباب قومية ودينية، وفق محاضرة ممثلته في الولايات المتحدة، سينم محمد، في مقر جمعية "مجلس أبحاث العائلة" اليميني في واشنطن يوم
لن تحقق عملية "نبع السلام" السلام، مع احتمال عدم مواصلتها حتى النهاية، كما تصوّرتها القيادة التركية، لأن تركيا تعاني من نقاط ضعف وهشاشة في أكثر من مجال، ما يسمح للقوى الأخرى بالضغط عليها لدفعها إلى وقف العملية عند نقطة معينة، أو إجبارها على الانسحاب خارج المنطقة، كما لن تنجح "مسد" و"قسد" في هزيمة القوات المهاجمة، أو الحفاظ على مشروعها، بالعودة إلى التفاهم والتحالف مع النظام، فالمسارعة إلى طلب حماية النظام ودعوته إلى إرسال قواته للانتشار على الحدود، وهي تعلم أن في ذلك نهاية لمشروعها، فقد سبق وعرفت شروطه لمساعدتها، ليس أقل من انتحار سياسي.