ينتمي "نحو الضوء" (Hikari باليابانية، و"إشعاع" بالإنكليزية)، لليابانية نعومي كَوّاس (1969)، إلى نوع سينمائيّ يرتكز على ثنائية سرد حكائيّ ولغة شعرية في التقاط المشاهد وتصوير الحالات والانفعالات والعلاقات. هذا متداول. هذا نمطٌ يرتفع بالصورة إلى أرقى اشتغالٍ فنيّ في تثبيت السرد الحكائيّ ضمن لقطات مشبعة بالصمت، والألوان المتلائمة ولحظة التقاط مشهدٍ أو تفصيل أو حالة. "نحو الضوء" تمرينٌ متنوّع، يضع الجميع أمام تحدّيات مختلفة: المخرجة وهي ترسم بالكاميرا لوحات باهرة عن الشغف والرغبة في اختراق الغامض ومعرفة المخفيّ، والمُشاهِد وهو يغوص في مسارات درامية وجمالية عن الفرد وتحدّي القدر، وعن الحلم ومقارعة كل ما يحول دون تحقيقه، وعن معنى الكلمات في تفسير صُوَر تنشأ في مخيّلة فردٍ، إنْ يكن الفرد أعمى أو مُبصراً.
والفيلم ـ المعروض أولاً في المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ الدوليّ، والمُشارك حالياً في الدورة الـ 17 (4 ـ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2017) لـ "مهرجان بيروت الدولي للسينما" (يعرض ثانية مساء 11 أكتوبر/ تشرين الأول، في صالة سينما "متروبوليس" في الأشرفية، بيروت) ـ يروي حكاية صبيّة تُدعى ميساكو أوزاكي (آيامي ميساكي)، تعمل في مجال وصف الأصوات الخاصّة بالأفلام، وتعتاد مراقبة الأشياء حولها ووصفها أيضاً، ووصف المشاعر التي تحيط بها، والعالم الذي تعيش فيه. في مهنتها، تلتقي ماسايا ناكاموري (مازاتوشي ناغازي)، وهو مُصوِّرٌ فوتوغرافيّ مشهور، ذو شخصية حازمة ومراس صعب.
تنشأ علاقة بينهما، خارج إطار العمل، بصعوبة. فهو مُصاب بعماءٍ يزداد يوماً بعد يوم، ما يُفقده إمكانية التقاطه صُوراً فوتوغرافية، تمنحه ـ سابقاً ـ شهرةً وحضوراً ومكانة مرموقة. وهي ممتلئة بمشاعر صادقة وشفّافة، وترغب في فهم أحواله، وتجاوز الجدران التي يرفعها حوله، مانعاً أحداً من التسلّل إلى حياته الخاصّة. لذا، يُسرف "نحو الضوء" في تفعيل لغة الصورة الحسّاسة، عبر كاميرا (آراتا دودو) تبدو كأنها كائنٌ حيّ يضجّ بأحاسيس ورغبات، ويُقيم في ذواتٍ وارتباطات وعوالم، فتنعكس ـ بالعدسة الصائبة في تفكيك أفراد وحالات وكيانات وأمكنة ـ دواخل محطّمة، ورغبات مكبوتة، وأحلاماً موءودة.
الألوان المعتَمدة تتراوح بين ثنائية أبيض وأسود باهتة إلى حدّ الاندماج بحالة ارتباك وقلق ومتاهة؛ وسواد ليلٍ كالحٍ يحاول ماسايا ناكاموري أن يُحيله إلى بياض عالمٍ متعلّق به، كي يكتشف الدنيا وما يحصل خارج جسده وروحه وعقله، في آن واحد؛ وأصفر معبّأ بمشتقاته النابعة من غروب شمس، كأن كلّ شيء يغرب معها، وإنْ بلذّة لدى البعض، وبشجن حزين لدى البعض الآخر.
إصرار ماسايا ناكاموري على إكمال عيشه كما يريد، رغم العائق البصريّ، يُقابله إصرار ميساكو أوزاكي على التوغّل في أحواله، داخل العمل (وصف الأصوات الفيلمية، والتصوير الفوتوغرافي) والبيت (عالمه الحميم، والمرتَّب بدقّة تتلاءم مع رجلٍ صلب، تزداد قسوته في مواجهة العالم والناس، مع ازدياد حالته سوءاً، واستمرار فقدان بصره تدريجياً). إصراران كهذين يتكاملان معاً في رسم الصورة الأجمل لتلك العلاقة الملتبسة بينهما: حبّ وشغف، أو رغبة في المعرفة، أو تبادل مصالح؟ والمصالح تلك، إنْ تنوجد في علاقة غريبة وجميلة كهذه، تُختزل برغبة ماسايا في "مُشاهدة" غروب الشمس، من سفح جبلٍ، بعد سنين على التقاطه الغروب ذاك في صُورة فوتوغرافية تُشكِّل أحد أبرز أسس فنّه وأسلوبه وشهرته.
أو ربما تبدو "المصالح" أشبه برغبة في رفقة أخيرة على ذاك الدرب الأخير، الذي يريد ماسايا ناكاموري اجتيازه. رغبة في اجتياز حياة وموت معاً، وفي مواجهة آخر تحدٍّ له: فقدان كامل للنظر. وفي هذه الرحلة، الممتدة على 100 دقيقة، تُرافق موسيقى اللبناني إبراهيم معلوف (1980) مناخاتٍ تتحوّل من قسوة المواجهة إلى ألم الغياب، ومن شدّة التحدّيات إلى سلاسة التواصل الانفعالي، ومن صخب الشوارع والمقاهي إلى سكينة "التلّة" وامتلاك أصفى لحظات الوداع الأخير لغروب الشمس.
وإبراهيم معلوف، عازف البيانو والـ "ترومبيت"، يشتغل على أنغامٍ تظهر في السياق الحكائيّ كجزءٍ من تعبيرٍ عن حالة أو شعورٍ أو موقف. فالصمت أساسيّ في لحظات عديدة، لكن موسيقى معلوف تُكمله بأنغامٍ تتمكّن من إخراج ما في أعمق الذات إلى تفاعلٍ يستعين بالأذن والعين والشعور، كي يساهم في كتابة نصّ سينمائيّ باهر كهذا، ربما يأتي التفكير في مضامينه لاحقاً، إذْ يتفرّد التأمّل بتحكّم متماسك به.
لكن "نحو الضوء" لن يبقى شريطاً يمنح الفرد مساحة تنبّه إلى أحواله وشقائه ورغباته، لأن جوانب كثيرة منه مليئة بانعكاسات بصرية لوقائع العيش في خراب عالمٍ مُشبع بالانهيارات والشكاوى والمآزق.