كلّما نوقشت المشاركة العربية في مهرجان "كانّ"، ذُكر "وقائع سنوات الجمر" للجزائري محمد الأخضر حامينا (1930)، الحاصل على "السعفة الذهبية" في دورته الـ28 (9 ـ 23 مايو/ أيار 1975). فيلمٌ سياسي تاريخي، عن رجال يهربون من الأرض القفر للانخراط في جيش الاحتلال، ويُقدّم محاكاة ساخرة للتعبئة في مقبرة. حكاية كثيفة، فيها قدرة هائلة على تركيب وتشبيك خطوط أنتروبولوجية واقتصادية وسياسية، بدءًا من قاع سحيق، فيه صورة مريعة عن فقر الشعب. طيلة 3 ساعات، يرتفع الإيقاع ويزداد عمق الحكاية، في عرض المسيرة الدموية للشعب نحو الحرية، وتفسيرها.
بسبب الحفر العميق، احتاج حامينا إلى 90 دقيقة، لإظهار الوعي السياسي لبطله أحمد (اليوناني يورغو فواياجيس) في لحظة الحسم بين النضال السياسي والنضال المسلّح. لمعت المغربية ليلى الشنا بتأدية دور الزوجة، في صمتها وقلقها. ممثلة كبيرة، ظهرت في "جدران من طين" (1971) للفرنسي جان ـ لوي برتوتشيلي، وبما أنها مُقرَّبة من جنرال حاول الانقلاب على الملك الحسن الثاني عام 1971، فقد طردت من المشهد الفني المغربي.
قويت الحركة الوطنية في شمال أفريقيا أثناء الحرب العالمية الثانية. انتهت الحرب، فبدأت الشعوب المستعمَرة تطالب بالحرية، كالجزائريين المطالبين بها من فرنسا التي استعمرتهم. كانت هناك صفقة مفادها أن مساعدة فرنسا ضد النازية ستعود بالنفع عليهم. لذا، قاتل آلاف الشبان من شمال أفريقيا في ثلوج أوروبا. حينها، كان صوت فرانز فانون يدوّي في جزائر تمثِّل حالة مقاومة فريدة، لأن فرنسا افترضت أن الجزائر فرنسية "إلى الأبد"، فسحقت كلّ من وما وقف في طريقها.
في هذا السياق ـ الذي تغذّى بصوت أبي القاسم الشابي ومطلع قصيدته المشهورة "إذا الشعب يومًا أراد الحياة" ـ بدأ الفرز بين خصوم الاستعمار وأنصاره. حصل الذين عاشوا الذلّ على رزق وفير، وتعرّض المقاومون لعنف مريع.
عرض الفيلم صوَرًا توثيقية لـ"مجزرة سطيف" (1945). هنا تحدّد الخيار: نضال سياسي يضيّع الوقت، أو نضال مسلّح، لأن الاستعمار دخل بالسلاح ولا بُدّ من أن يخرج بالسلاح. قدّم الفيلم فصيلين سياسيين متصادمين أحدهما مع الآخر، لكن سيلان الدم وحّدهما. هنا، يتطابق الفيلم مع الرواية الجزائرية الرسمية.
قبل الوصول إلى هذه اللحظة المضيئة، عرض محمد الأخضر حامينا الفجيعة الاقتصادية والاجتماعية للشعب، الذي يُسيِّل دمه بنفسه في النزاع على الماء. بعدها، يقصد الشعب قبر الولي الصالح "لينوب عنه ويتوسط له عند الله كي يسقيه". يهاجم الإمام تزايد شرب الخمر، الذي يُسبّب غضب الله والجفاف. هذا واقعٌ ألهم مالك بن نبي فكرة "قابلية الشعب للاستعمار".
في هذا الوضع، يستمرّ "مُعذّبو الأرض" في العيش رغم أن الطعام نادر. لذا يتمّ مضغه بطقوس مريرة، فتُظهر طريقة الأكل صعوبة الحصول عليه. تمّ تقديم الأنتربولوجية القروية سرديًا لا وصفيًا. ففي لحظة غضب، يفر أحمد من الحقل، بينما يبقى المتردّدون وهم يستظلّون بالحضور الهائل لسلطة شيخ الضريح كقوّة حامية وموحَّدة.
يرحل أحمد إلى المدينة مُسلَّحًا بدعاء شيخ الضريح. وعند وصوله، يقوده مجنونٌ ـ يخطب في مقبرة ـ إلى غايته. مع هذا العبث، يبقى مرور الزمن وأثره واضحين بين اللقطات. فقد تسبّبت الهجرة إلى المدينة في تحوّل ديموغرافي أثّر على الوضع السياسي والاجتماعي. في المدينة وباء وحظر تجوّل ورجل يراوغ الموت عبر الدروب. هذا المشهد عاشه فرانز فانون كطبيب وخلّده ككاتب طليعي في هجائه الاستعمار وتمجيده نضال الشعوب المضطهدة. يبدو أنه الوباء نفسه الذي ألهم ألبير كامو (نوبل الآداب، 1957) لتأليف روايته "الطاعون" (1947).
تحالف الجهل وغضب الطبيعة فتعمّقت فجيعة الشعب. لوصل مطلع الفيلم بوسطه، جعل حامينا من الماء سبب التحوّل. اتّضح أن ما يتقاتل عليه الجزائريون متوفر، لكنه محتَكَر من المُسْتَعمِرين الفرنسيين. يظهر القتال على الماء أن الشعب غير موحّد بل أنه قبليّ. تم تفجير السدّ للحصول على الماء. عامل التفرقة صار عامل وحدة.
"وقائع سنوات الجمر" فيلم تاريخي يمجّد الثورة وينتهي بتفاؤل: طفلٌ يجري نحو أفق مفتوح، نحو المستقبل. لكن ذلك لم يشفع لمحمد الأخضر حامينا، فتم وقف تمويل أفلامه رغم "السعفة الذهبية". واضحٌ أن الرفاق في "جبهة التحرير" أحبوا "السعفة" وخجلوا من صورة الشعب غير الاشتراكي في أفلام حامينا.
هو فيلم عن جزائر فلاحية لا جزائر صناعية ثورية، كما حلم الرفاق الذين ظنّوا أن الشعب موحّدٌ منذ الأزل، كحالة طبيعية. الأفلام التي تسوق مثل هذا الوهم لا تحصل على "سعفة ذهبية".
يُروى الفيلم بصوت الراوي المجنون وعينيه (محمد الأخضر حامينا نفسه)، مالك الحقيقة التي يشيعها مجانًا، لكن لا أحد يسمعه. إنه بديل الأب المناضل المسلح. يتكرر الضريح كرمز للنبع مصدر الطاقة الروحية. أي عار هذا؟
يريد الرفاق إلهامًا ثوريًا حداثيًا. لكن البطل مجذوب لا يناسبهم ولا يشبههم. وتأكيدًا على خجل النخبة الثورية من الشعب الذي تجمعه الأضرحة، أنه بالتزامن مع نجاح فيلم حامينا وتتويجه، هدم الرئيس الجزائري هواري بومدين زوايا وأضرحة عديدة.
الفيلم متوّجٌ في "كان" لأن فيه حضور تاريخ فرنسا وأنتروبولوجية قروية عميقة غير مشرفة للرفاق. لذا، واجه محمد الأخضر حامينا صعوبات في تصوير أفلام جديدة. يلاحظ أن معظم الأفلام العربية التي تصل المهرجانات الدولية تجري في خرابة أو قرية بائسة.