يُقدِّم نديم تابت يومًا كاملاً من سيرة مدينة، عبر حكايات أفراد مقيمين فيها. هذا اختزال لـ"يوم ببيروت" (2018)، لن يفي الروائي الطويل الأول هذا حقّه. التقديم والسيرة والحكايات والأفراد والإقامة في مدينة تضجّ بهذا كلّه، تعابير تحتاج إلى تنقيبٍ في معانيها المنفلشة في 91 دقيقة مُكثّفة ومتماسكة في بناءٍ سلس وهادئ، يتضمّن شيئًا من غليان ومتاهة وتعبٍ واشتباكاتٍ، صامتة غالبًا. حبّ غير منتهٍ رغم انفصال الطرفين، أحدهما عن الآخر. مدينة ممزّقة في يومٍ موزّع على مسافات في الجغرافيا والروح، تحاول استعادة نفسها كلّ لحظة، تمامًا كما يحاول كلّ مُقيم فيها استعادة ذاته، لكنه عاجزٌ عن ابتكار خلاصٍ.
رغم هذا، يُمكن التوغّل في مسارات المدينة والأفراد والفيلم أيضًا بشكلٍ آخر، يناقض إسقاطات ربما تكون صائبة. فـ"يوم ببيروت" انعكاسُ حالاتٍ وانفعالاتٍ لشخصيات أساسية تمتلك المساحة الدرامية كلّها كي تتجوّل، كما يحلو لها، في زوايا المساحة وفضاءاتها، وفي أركان البنيان العام للمدينة وأسئلتها، وفي معاني العلاقات المعطّلة والملتبسة. فالسلاسة في التقاط نبض أو انفعال أو لحظة أو قول أو حركة أو رغبة أو عطبٍ، أو في كيفية سردها دراميًا وجماليًا، تبقى الأبرز في تجوالٍ يتجاوز المنظور فيكشف بعض المخبّأ، ويخترق الجسد، أحيانًا، كي يقتفي مسام غير المرئيّ فيه.
هذا كفيلٌ بإزالة كلّ حدّ بين كلّ شيء: الكاميرا (باسكال أوفراي) مهمومة بمرافقة الشخصيات في رحلاتها وهواجسها ورغباتها وأشيائها، والمدينة "متعاطفة" مع الكاميرا في ذلك، وهؤلاء الأفراد غير مكترثين بها، لانهماكهم إما في إكمال مساراتهم المجهولة بالنسبة إليهم، وإما في العثور على منفذٍ، وإما في تفعيل تلك اللامبالاة الخانقة إزاء أجوبة شافية. حتى أن تعبير "شافية" يبدو غريبًا، إذْ تنكشف معالم الفضاء الإنساني الخاص بهم من دون جهد منهم لكشفها، في مقابل كاميرا جاهزة لإشباع نهمها في تصوير ما يظهر أمامها، وما يبقى في الهوامش، وما ينمو على الجوانب المخفيّة أو الظاهرة.
4 شبانٍ تتراوح أعمارهم بين 17 و22 عامًا: مايا (منال عيسى) وياسمينا (يمنى مروان) ورامي (وليد فغالي) وطارق (بانوس أبراهميان). هؤلاء نواة جوهرية مفتوحة على مكان واحد (بعض شوارع المدينة ومساكنها وأماكن لهوها الليلي)، وزمان واحد (24 ساعة). مهمومون بتفاصيل صغيرة تصنع عوالمهم المختلفة، وإنْ تتشابه في مسائل وحالات. منشغولون بهوامش تبدو أهم لهم من أي اهتمام آخر. يجوبون شوارع، ويجلسون في غرف، ويلتقون في أمكنة، ويتعرّفون إلى آخرين، ويخوضون أحلامًا مكسورة، وآمالاً مشحونة بألف تساؤل وتساؤل عن ألف مسألة ومسألة. يريدون ثقبًا ـ ولو صغيرًا ـ لنفادٍ معلَّق؛ أو سكينة ـ ولو مؤقّتة ـ لراحة منسية. يسعون إلى ما يبغون، أو ربما إلى ما لا يعرفون ولا يريدون. يطلبون ولا يسألون. يعيشون فيضحكون ويغضبون ويتنازعون ويحبّون، وهذا كلّه من دون قيد أو تفكير أو مناكفة.
كلّ واحد منهم مقيم في زاوية منغلقة عليه، أو مفتوحة إلى درجة الخراب. تمزّق نفسي وروحي لن يحول دون خروج من سجن إلى مساحة أوسع، ولو من أجل ممارسة بطيئة لفعل تمرّدي عابر. يوم بكامله يعتبرونه شبيهًا بأي يوم آخر. يتسلّلون إلى بؤر يحسّون أنها آمنة لهم، قبل أن ينفلشوا في شوارع مدينة تضيق ـ الشوارع والمدينة ـ عليهم. يواجهون ويتحدّون ويبتسمون ويسخرون ويعشقون، ويريدون انتقامًا ولا ينتقمون، لأنهم منجذبون إلى دفء مواجع خاصّة بهم، ومنخرطون في اختبارات غير منتهية. يقودون أجسادهم إلى حيث تأخذهم أرواحهم، وعندما تستفيق أرواحهم قليلاً يتركون أجسادهم على حواف الأقدار والطرقات.
كأن لا شيء قادر على إخماد غليان داخلي في كلّ واحد منهم، وإنْ يكن عيش الغليان والتعبير عنه مختلفًا من واحد إلى آخر. هؤلاء الـ4 لن يكونوا وحيدين. هناك أصدقاء ومعارف. هناك عابرون يصنعون فيهم، أو في بعضهم على الأقل، شيئًا من لمسة مفقودة وغير مفهومة. يمارسون جنونهم في مدينة مجنونة، ويحبّون بجنونٍ في مدينتهم التي لم تعد تعرف حبًّا. أو ربما لن يفعلوا شيئًا من هذا كلّه، فتكتفي كاميرا "يوم ببيروت" بالتقاط تناقضاتهم وانعكاساتهم وقلاقلهم ومخاوفهم، أو ربما تلتقط الكاميرا نفسها تناقضات مُشاهِدٍ، وانعكاساته هو، وقلقه هو، ومخاوفه هو. كأن المُشاهِد نفسه يتعرّى أمام هؤلاء، فيستسلم لهم كي يقول معهم شيئًا منه أيضًا.
أميرة (رين سلامة) وفؤاد (نيكولاس قرداحي) وميشو (جوليان فرحات). أفراد آخرون ينضمون إلى الـ4 في يومٍ بيروتي كأي يوم بيروتي آخر. ما الذي يجعل نديم تابت يُصوِّر يومًا بيروتيًا كأي يومٍ بيروتي آخر؛ مع 4 أفراد ومعارفهم الـ3؟ لكن، هل يتوجّب على نديم تابت أن يكون لديه سببٌ لالتقاط ما التقطته الكاميرا من تفاصيل هامشية تصنع حاضرًا كاملاً لمدينة مشوّهة، ولأناس مقيمين في أحوالهم المرتبكة؟
"يوم ببيروت" إضافة جمالية على نتاجٍ سينمائي يخترق بيروت ومخاوفها، كي يقول بالصُوَر بعض المخبّأ فيها.