أباريسيو غلبان، وهذه بداهة من بداهات آرائي غير المخلوطة بالكحول.
ذهبتُ معه مرّةً إلى المطعم الحكومي، فدسَّ ورك الدجاجة المطبوخ في جيب معطفه، ودلق فوقه طبيخ الفاصولياء وثلّث بالحلوى.
ولأنني من سكّان هذا العالم، فقد كان لزاماً عليَّ أن ألاحظ الموضوع وأعمل نفسي غير مُلاحِظ،
وأن ألاحظ، كذلك، أن جيب معطفه يتّسع لطنجرة طبيخ، وأعمل روحي غير ملاحظ أيضاً.
أمّا هو، بوصفه موجوداً في هذا العالم بالجسد فقط، فلم يلاحظ أنّني لاحظت وعملت روحي غير ملاحظ.
وأظن أنه، أيضاً، لا يلاحظ الأماكن التي تطلّ عليه أو يطلّ عليها، وكذا الأشخاص.
فالحق أن أباريسيو، رجل غير إقليمي بالمرّة.
لذا لا تفرق معه أن يكون في برشلونة أو قادش، في المترو أو في الغرفة.
كما لا تفرق معه أن يكون محدّثه خوسيه أو يوسف، أو ما بينهما من طابور.
فهو في هذا الشأن إنساني جدّاً، إنساني بامتياز، ولا يُفرّق بين البشر بسببٍ من دين أو لون، إلخ.
كل الناس عنده أصدقاء. وكلّما رأى واحداً منهم، وكان في حال طيّب، أعرب عن سعادته الغامرة برؤيته، مع لطمة قوية بالكفّ على أضلاع الصدر، لتأكيد المحبة.
نخرج من المطعم ونجلس قدّام المدرسة وأنفحه سيجارة سوداء، فيشعلها من الفلتر.
أقلبها له، فلا يلاحظ أيضاً ـ أو ربما هو مثلي، لاحَظَ وعملَ حاله غير ملاحظ.
وأباريسيو رودريغَث من أصل قادشي، ويقول المتابعون لأصوله العليا، إن فيه دماء منا.
ولهذا، كثيراً ما يغضب من الأوضاع بمجملها، فتراه يُحدّث أشباحاً غير مرئيّين في الشارع، وبالصوت الحياني.
ذلك الصوت المستغرَب من رجل نذرَ عمره للكحول.
يمر عليه الناس ويلاحظون، ويعملون أنفسهم غير ملاحظين، لأن هذا الصنيع يريحهم أكثر.
ومع ذلك، ولكل ما هو غير ذلك، أنا اصطفيت أباريسيو صديقاً دوناً عن بقية السنيورس في المدينة، ليكون راية هذه القصّة.
ذلك أن من ظلمته الدنيا، لا يجوز أن يظلمه الأدب.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة