انقلب الجدار وتطاير الغبار الرمادي في المكان. لكن الشاب الثلاثيني لم يكن نائماً في سريره في تلك اللحظة الكارثية، فنجا من الموت بأعجوبة، كما يقولون. لم يكن أبو رفيق في غرفة النوم عندما دخل عمّال الورشة الملاصقة للبناء الذي يسكن فيه عن طريق الخطأ إلى غرفته. كانوا يضربون ضربة في جدار الورشة الجديدة فصاروا فجأة في غرفة نومه، وشوّهوا كلّ ما كان فيها.
نفذ أبو رفيق، بحياته لكنه لم يحزن، فتعويض التأمين سيُعيد بناء جدار الغرفة ويشتري له غرفة نوم جديدة وثياباً.
لذلك قرّر أبو رفيق أن يتزوّج!
يتحدّر الشاب من واحدة من أكبر العائلات البيروتية عدداً. لكنّه لم يكن يوماً من أصحاب الأملاك، كما قد يخدع النسب للعائلة البيروتية العريقة. فهو ينتمي للفرع الأضعف في العائلة. الفرع الذي لا يتذكّره "كبارها" ووجهاؤها إلا خلال انتخابات نيابية أو بلدية أو اختيارية. فرع الناس العاديين الذين لا يعتمدون إلاّ على عملهم في الحياة. من دون العمل "يتبهدل" أبو رفيق، المسؤول عن أم وشقيق يعيشان معه في المنزل الصغير. توفي والده باكراً فنزل إلى الحياة بعدما لم يحصّل من العلم إلا فكّ الكلمات التي يكتبها بجملٍ تكاد تبدو مضحكة أحياناً.
عمل حداداً افرنجياً، لكنه ما لبث أن هرب من المهنة التي تتطلّب جهداً بدنياً لا يتناسب مع قامته القصيرة. صار معلّماً للنراجيل. خبر أنواع المعسّل وموديلات النراجيل كلّها. يتحدّث بلغة العارف عن أشكال سِباعها. والسَبع هو العمود الحديدي الذي يجمع ما بين رأس النرجيلة والنربيش وقارورة المياه الزجاجية.
لكن أبو رفيق، لا يملك، على طيبته وتواضعه، مصداقية لدى أبناء منطقته. فخلال ساعات الصباح "يكشّ" الحمام. وكشّاش الحمام لا يؤخذ بشهادته في المحكمة على ما تقول الروايات. ولأبي رفيق، أربعون حمامة تتنوع ما بين "بوز" و"شَفَر" و"كركند" و"دبانة" و"لورنس" و"موصللي". فإذا عاد سرب حمام أبو رفيق، بحمامة أو حمامتين، فرح واستكان. فإن ظهر صاحبها يطالب بها أعادها إليه مبتسماً مع غصّة، لأنه لا يحب افتعال المشاكل. وإن لم يظهر صارت فرداً جديداً في عائلة السرب الأليف. أما إذا "لطش" أحدهم إحدى حمامات أبو رفيق، فلا يذهب للمطالبة بها، بل يرتضي صاغراً نتيجة اللعبة غير العادلة.
تغيّرت ملامح أبو رفيق، منذ أن انقلب الجدار الذي بدا أهم من انهيار جدار برلين في حياة الشاب الصعلوك. صار مبتسماً طوال الوقت يخطط لعروسٍ يأتي بها إلى المنزل. عروس وضع لها صفتين فقط: "معتّرة" وسمراء. فإذا وجدها كان النصيب، وإذا لم يحصل عليها، عاد إلى حماماته الأربعين يهتم بها ويحلم بتكاثرها.