لا أتذكّر متى بدأ الأمر بالضبط، لا أتذكّر سوى طفلٍ يقاومُ النّعاس في المقعد الخلفي للسيارة التي يقودها أبوه على مهل، أو على مهل أم كلثوم التي تمنعه من إيقاف المحرّك قبل أن تعطيه إشارةً بذلك المنديل، معلنةً انتهاء الأغنية.. انتهاء الجولة، ليصل الطفل إلى بيته، ويغطّ في نومه.
في الصباح التالي، يستيقظ الطفل على صوتِ أبيه وهو يعدُّ القهوةَ ويغنّي "يا ريتك حلم في جفوني". وقد تأخذه الأغنية إلى درجةٍ لن تمنعه من تلقيم القهوة بالملح عوضاً عن السّكر، السّكر الذي وصفه الأب مرّة: حين تقول السّت "حلم"، تشعر أنّ قطعة من "غزل البنات" تذوب في حلقِها، كما لو أنّها حلم!
كبرتُ. وما زال أبي يمارسُ الطّقوس نفسها صباحاً، أما المساء، فله حكايته الأخرى. أعودُ إلى البيت، فأجده جالساً في مكانه المفضّل، تلك الزاوية التي وضع قربها جهاز حاسوبه والسماعات التي قلّما تفارق أذنيه، منصتاً إلى واحدة من أغاني السّت. أدخل، فينادي: تعال اسمعْ.
في سرّي أقول ضاحكاً: لك خدودٌ ممتلئة مثل خدودها يا "أبو كلثوم"! وأمشي إليه. يُرجع التسجيل إلى مقطع محدّد، ويشير إلى جملةٍ منه طالباً مني أن أصغي إليها بإمعان: اسمعْ كيف تقولها، اسمعْ كيف للسنباطي أن يحمّل ألحانه المعنى حتى أقاصيه، وكيف تؤدّيه أم كلثوم وكأنّها تعيشه. إنّها "جددتِ حبّك ليه"، وتعيُدها السيّدة بقهرٍ: ليـــه؟ فيعود "أبو كلثوم" هنا، ويقول: "لـيـــه" الثانية تصوّر لك قهرها كما لو أنّه مرئيّ.
ثمّ يروي لي القصة كاملةً: عاد أحمد رامي إلى البيت، ففتحت له أمّه الباب غاضبةً بعد أن سمعت إذاعة الحفلة الأولى للأغنية، وسألته: إنت رجعت للكلام الفارغ ده تاني؟ (تقصد حبّه الخالد لأم كلثوم). فيتركها ويذهب إلى غرفة نومه، ليجد زوجته قد أقفلت الباب بالمفتاح، تاركةً إيّاه يقرعه بلا جدوى.
يُشعرني أبي، الذي درس في مصر وأحبّها وأورثني حبَّها، أنّه عاش بينهم من كثرة ما يعرف قصصهم وتفاصيلها، التي قرأنا بعضها في كتبٍ مثل "السبعة الكبار" لفكتور سحاب.
مرّةً أجريت له اختباراً. كان لدينا كيسٌ كبير، فيه معظم كاسيتات أم كلثوم. فتحته، وجلستُ أمامه، أقول له اسم الأغنية، وعليه أن يقول اسم الملحّن والكاتب. لم يخطئ بواحدة قطّ، بل كان يزيدني إن كان للأغنية المذكورة قصّة أو ارتباط بحادثة ما.
قبل أكثر من عامٍ بقليل، كنت قد تورّطتُ عاطفيّاً. أظنّه قد شعر بذلك، فمن عادته أن يلتمس فينا الألم من دون أن نخبره. كان يقرأ عيوننا بدقّة، ولعلّه تجلٍّ كلثومي. في الليل، وقبل أن ينام، يطفئ أضواء البيت، حاملاً معه قنديلاً/أغنيةً، يقترحها عليّ لأسمعها في سهرتي ثمّ يمضي إلى نومه.
هذا ما جناه عليّ "أبو كلثوم"! لم يكن ليقترح إلّا الأغنيات التي تليق بورطتي: "ياللي كان يشجيك أنيني" أو "سهران لوحدي" أو "هجرتك" أو "الآهات". يتركني مع واحدة منهنّ ويذهب هو هذه المرّة، ليغطّ في نومه، مثل ذلك الطفل الذي يقاوم النّعاس في المقعد الخلفيّ لسيّارة لا تقف إلّا بعد انتهاء الأغنية.