أتاتورك المُفترى عليه
قلّما ينظر الآخرون إلى قضيةٍ ما من زاوية نظر أهل شِعابها. أقصد من زاوية مصالح أصحاب القضية نفسها وتصوّراتهم. لأنَّ مصلحتهم كـ "آخرين" هي التي تتحكَّم في نظرتهم. إذن، كلٌّ يغلِّب مصلحته على مصلحة صاحب المصلحة الأول. وهذا ينطبق على كل شيء تقريباً. فمن الصعب أن نكون "الأنا" و"الآخر" في الوقت نفسه. ثمّة استحالةٌ في الأمر. لكن، هناك إمكانية لأن نحاول تصوّر أنفسنا محلّ الآخرين. مجرد تصوّر. ربما حينها يتغيّر موقفنا قليلاً. كتبت شيئاً قريباً من هذا الكلام، بعيْد غزو النظام العراقي الكويت، وبدء حرب تدميرٍ وحصارٍ طويليْن على الشعب العراقي، بحجة إطاحة صدّام حسين. كثر كلام العراقيين، حينها، عن المعاناة الخارقة التي جلبتها مغامرات صدّام عليهم. لكن قلةً في العالم العربي أرادت أن تسمع أنين العراقيين، المحاصرين بين حلفٍ غربي وحشي ونظام قمعٍ وحشي. كان صدّام، وربما لا يزال، إيقونةً عربيةً، على الرغم من أنه لم يجلب لشعبه ولـ "أمته" سوى البلاء. غطّت صورة صدام – الأيقونة على ما يعانيه شعبٌ يبلغ تعداده ثلاثين مليوناً. هذا، طبعاً، قبل أن يُشطرَ العراقيون إلى طوائف وملل ونحل، معبأة، حد الانفجار، بأحقاد التاريخ.
واليوم، ها نحن نندفع بالحماس الفتَّاك نفسه للدفاع عن أي إجراءٍ يتخذه أردوغان في تركيا بعد محاولة الانقلاب، أو التشنيع عليه واختراع سيناريوهات خيالٍ علمي بائسة عن ضلوعه هو في الانقلاب على نفسه.
من منا فكَّر في ما يفكِّر فيه مواطنو الجمهورية التركية؟ ليس هذا شغلنا. فإن كان الانقلاب يناسبنا، صرنا معه، على الرغم من أنه قد يكون كارثةً على حياة المواطنين الأتراك، وإنْ لم يكن ناصبناه العداء. وهذا بالضبط ما حصل عربياً.
من منا يعرف ما يجري في تركيا فعلاً، وليس ما يقوله المعلقون الأتراك الذين كأنهم قرأوا، كما يقول المثل، على شيخٍ واحد؟ لا أحد يعرف، على وجه اليقين، ماذا يجري في جمهورية أتاتورك. يحتاج الأمر إلى وقتٍ لكي يتبيّن ما يقوم به أردوغان. فحتى الآن، يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع على "تطهير" أجهزة الدولة والمجتمع المدني من جماعات فتح الله غولن الذي يبدو لنا، من خلال تصفيات "أنصاره"، أخطبوطاً ليس له أول ولا آخر. من هم ضد أردوغان وحزبه يقولون إنه يصفِّي العلمانيين، ويضعف علمانية الدولة، بينما سدنة العلمانية وورثة أتاتورك، في حزب الشعب الجمهوري، والأقليات العرقية (أهمها الأكراد) اعتبروا ما جرى محاولة انقلابٍ على العلمانية، باعتبار أن من يقف وراءها هو زعيم حركة دينية.
كان موقف الأتاتوركيين حاسماً في ضعضعة الانقلاب علمانياً، فلو كان الأمر عكس ذلك لما وقفوا، في بادرة وحدةٍ وطنيةٍ تركيةٍ نادرةٍ في عهد "العدالة والتنمية"، ضد الانقلاب. بالعكس. فهم طالما اعتبروا الجيش حامي القيم الكمالية. وما جرى هو انقلابٌ على تلك القيم.
هل سيفرط عقد هذه "الوحدة" الوطنية قريباً؟ الأمر، حسب ظني، بيد أردوغان شخصياً. وهل سنرى صورة أردوغان تنفرد بالصدارة على حساب صورة أتاتورك المحدِّقة بكل مواطنٍ ومواطنةٍ في جمهوريته مترامية الأطراف؟ هذا مشكوك فيه. لا أحد يستطيع أن ينافس أتاتورك في الوجدان التركي. لولا أتاتورك، لما كانت هناك تركيا. وبالتأكيد، لما كانت على ما هي عليه اليوم. فلم تبق دولةٌ في محيطها لم تنتزع منها قطعة أرض بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. ولأنني اهتممت بمعاهدة سيفر (1920) وكتبت عنها أكثر من مرة، فقد عرفت أن تلك المعاهدة المذلّة (للأتراك) هي التي أطلقت شرارة حرب التحرير، بما تبقى من الجيش العثماني قاده كمال أتاتورك، وانتهت بانتصار "أب الأمة" التركية على اليونان وحلفائها وتشكيل الجمهورية.. التي قامت على فصلٍ تام، وحادّ، بين الدين (الذي كان يحكم باسمه سلاطين بني عثمان) والدولة الحديثة الطالعة من عباءة الباب العالي الممزقة.
قد تكون علمانية أتاتورك حمت تركيا من الاضطرابات الطائفية التي عرفها محيطها. ولكن، لو كانت هذه العلمانية ديموقراطية الطابع، وأمَّنت مشاركةً فعليةً للأعراق المكوّنة للجمهورية، لما تسبَّبت بما يشبه الحرب الأهلية بين الأكراد والمؤسسة العسكرية التي استنزفت البلاد طويلاً.