06 نوفمبر 2024
أثر للموسيقى والشعر
يُلاحظ المُتتبع للمشهد الثقافي الراهن في إسرائيل أن هناك حالات بشرية تُخلص، في الآونة الأخيرة، لمسير الانكفاء عن الكتابة الأدبية الصرفة أو الإنتاج الفني، إلى ناحية الانخراط في عمل ميداني لمنظماتٍ تُعنى بالأساس بقضايا حقوق الإنسان، ولا سيما في الأراضي المحتلة منذ 1967. وأشارت صحيفة هآرتس، في تقرير صحافي نُشر أخيرًا، إلى هذا الأمر، وقدمت أمثلة عينية تنمذج عليه، كمحصلة حوار مع أحد الملحنين الموسيقيين الشباب الذي قرّر التخلّي عن التلحين، وتسلّم منصب الناطق بلسان "بتسيلم" (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة).
برأي هذا الملحن، عميت غيلوتس، لا تعدو الموسيقى، في الواقع الإسرائيلي الراهن، كونها أكثر من ذرّة غبار في محيط ضيّق، من دون أي قدرة على إحداث أي تغيير في هذا الواقع الآخذ بالتغوّل، فضلًا عن أنها مرهونة، إلى درجة كبيرة، بالمؤسسة الحكومية، وبمتبرعين ومراكز قوى اجتماعية غير معنيّة بالتغيير بتاتًا.
والحقّ أن المشهد الثقافي الإسرائيلي سبق أن شهد مثل هذا المسير في الماضي، على غرار ما ورد بصدده مثلًا في كتاب "شعراء لا يكتبون قصائد" صدر عام 1990، وضمّ حكايات وشهادات لمجموعة من العسكر، شاركوا في قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987). ورأت محرّرة الكتاب، إيلانه همرمان، في حينه، أنه يروم استحداث أسلوب أدبي جديد في محاكاة الواقع القاسي من غير تزويق، في إلماحٍ إلى أنه، في مواجهة هذا الواقع، تفقد الصنعة الأدبية نكهتها وألقها، وربما تنتفي الحاجة لها. وهو أسلوبٌ لا يكترث بتصوير الواقع حسبما هو، بقدر ما يكترث بطموح لتغيير الواقع.
ووفقًا لما قالته المحررة نفسها، في سياق مختلف، تظل الكتابة التوثيقية عن الواقع الإسرائيلي المتأثر بالانتفاضة الفلسطينية أدعى إلى اهتمام الناس والقراء من تناول كاتب ما هو معروف له وللجميع من خلال وسائل الإعلام، ثم إضافة هواجسه وآرائه وصوغ جميع هذه العناصر في إطار قصة درامية، يقدمها من قمة صلاحية القاص الذي يعرف كل شاردة وواردة. كما أكدت أن الهدف الأوحد من الكتاب هو أن يعرف الإسرائيليون ما هو حاصل في الأراضي المحتلة، بما يستتبع معرفة كيفية تأثير ذلك عليهم، وهو غايةٌ قد لا يقدر الشعر والأدب عمومًا عليها.
قد نجد أن في أساس مثل هذه الفكرة دعوة عامة إلى الوحدة بين المبدع ونتاجه. وهذه الوحدة، إن لم تكن متوفرة، فهي طموحٌ يسعى المبدع إلى تحقيقه، ومثالٌ يتطلّع إليه، بالانطلاق من ضرورة الوحدة بين الوعي والفعل، بدءًا من أبسط مستوى الإدراك، وصولًا إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا في الفكر النظري.
بطبيعة الحال، تنطوي هذه الرؤية على إشكالية مُعقدة. ومع ذلك، فهي تطرح مرة أخرى قضية المساءلة بشأن معنى الثقافة في ظروف الأزمة. هنا لا بُدّ من القول إنه إذا كان السعي إلى الخلاص، باعتباره مفهوماً نظرياً وعملياً، لا ينفصل عن الأزمة، فإن الثقافة ليست أكثر من الفعل النظري والفعل العملي المقاتل في سبيل الخلاص، في الآن نفسه. بهذا المعنى، وانطلاقاً منه، وتأسيسًا عليه، ينكسر التصوّر "التقني" لمفهوم الثقافة الذي يبدأ بمقولة "قل كلمتك وامش"، لينتهي إلى حالةٍ من السكون والمراوحة. وتصبح الرؤية حاملة صورة صحيحة للهامش العملي الذي يعيشه المثقف الإسرائيلي في صيرورته، في انتمائه الملتبس إلى الواقع، وفي لا انتمائه.
بحسب بعض المعايير النقدية الأدبية، من شأن أي انتصار للنيات الواعية لدى الكاتب أن يميت العمل الإبداعي. ولا تزال هذه المسألة موضع جدل، غير أن الأكيد أن أي عمل إبداعي يثير القلق من ظواهر في الواقع، في حين أن تصوير الواقع من الميدان، كما ينهج أصحاب هذا المسير، يركز القلق ضمن دائرةٍ يتحرّر معها صاحبها من إسار السحر الكامن في الكلمة المكتوبة التي لا تمارس أدنى فعل تغييري أو تثويري أو تعبوي.
والحقّ أن المشهد الثقافي الإسرائيلي سبق أن شهد مثل هذا المسير في الماضي، على غرار ما ورد بصدده مثلًا في كتاب "شعراء لا يكتبون قصائد" صدر عام 1990، وضمّ حكايات وشهادات لمجموعة من العسكر، شاركوا في قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987). ورأت محرّرة الكتاب، إيلانه همرمان، في حينه، أنه يروم استحداث أسلوب أدبي جديد في محاكاة الواقع القاسي من غير تزويق، في إلماحٍ إلى أنه، في مواجهة هذا الواقع، تفقد الصنعة الأدبية نكهتها وألقها، وربما تنتفي الحاجة لها. وهو أسلوبٌ لا يكترث بتصوير الواقع حسبما هو، بقدر ما يكترث بطموح لتغيير الواقع.
ووفقًا لما قالته المحررة نفسها، في سياق مختلف، تظل الكتابة التوثيقية عن الواقع الإسرائيلي المتأثر بالانتفاضة الفلسطينية أدعى إلى اهتمام الناس والقراء من تناول كاتب ما هو معروف له وللجميع من خلال وسائل الإعلام، ثم إضافة هواجسه وآرائه وصوغ جميع هذه العناصر في إطار قصة درامية، يقدمها من قمة صلاحية القاص الذي يعرف كل شاردة وواردة. كما أكدت أن الهدف الأوحد من الكتاب هو أن يعرف الإسرائيليون ما هو حاصل في الأراضي المحتلة، بما يستتبع معرفة كيفية تأثير ذلك عليهم، وهو غايةٌ قد لا يقدر الشعر والأدب عمومًا عليها.
قد نجد أن في أساس مثل هذه الفكرة دعوة عامة إلى الوحدة بين المبدع ونتاجه. وهذه الوحدة، إن لم تكن متوفرة، فهي طموحٌ يسعى المبدع إلى تحقيقه، ومثالٌ يتطلّع إليه، بالانطلاق من ضرورة الوحدة بين الوعي والفعل، بدءًا من أبسط مستوى الإدراك، وصولًا إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا في الفكر النظري.
بطبيعة الحال، تنطوي هذه الرؤية على إشكالية مُعقدة. ومع ذلك، فهي تطرح مرة أخرى قضية المساءلة بشأن معنى الثقافة في ظروف الأزمة. هنا لا بُدّ من القول إنه إذا كان السعي إلى الخلاص، باعتباره مفهوماً نظرياً وعملياً، لا ينفصل عن الأزمة، فإن الثقافة ليست أكثر من الفعل النظري والفعل العملي المقاتل في سبيل الخلاص، في الآن نفسه. بهذا المعنى، وانطلاقاً منه، وتأسيسًا عليه، ينكسر التصوّر "التقني" لمفهوم الثقافة الذي يبدأ بمقولة "قل كلمتك وامش"، لينتهي إلى حالةٍ من السكون والمراوحة. وتصبح الرؤية حاملة صورة صحيحة للهامش العملي الذي يعيشه المثقف الإسرائيلي في صيرورته، في انتمائه الملتبس إلى الواقع، وفي لا انتمائه.
بحسب بعض المعايير النقدية الأدبية، من شأن أي انتصار للنيات الواعية لدى الكاتب أن يميت العمل الإبداعي. ولا تزال هذه المسألة موضع جدل، غير أن الأكيد أن أي عمل إبداعي يثير القلق من ظواهر في الواقع، في حين أن تصوير الواقع من الميدان، كما ينهج أصحاب هذا المسير، يركز القلق ضمن دائرةٍ يتحرّر معها صاحبها من إسار السحر الكامن في الكلمة المكتوبة التي لا تمارس أدنى فعل تغييري أو تثويري أو تعبوي.