11 مايو 2019
أحلام مخضبة بدماء
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
من أين له بكل هذه الدماء، على الرغم مما يلفظه من أنفه وفمه ودبره ومسام جلده؟! ومن أين له بكل هذه الدماء حتى يتشبث بحياة حرة كريمة رغم النزيف الذي لا ينقطع برهة واحدة؟!
هو يتكبد معاناة ليس قبلها ولا بعدها، ولعل ما يؤزم الموقف ويثير غيظه وحنقه، أنه لم يخطر له قط على بال أو خاطر أن يمر بكل تلك التجارب القاسية المريرة، والمهينة لكل مقومات إنسانيته، ولم ينتب أعتى هواجسه وأشدها تطرفا وتشاؤما، أن يصبح مطية ويهون هكذا على الحياة إلى تلك الدرجة البشعة، كأن هناك ثأرا أزليا مبيّتا، بينه وبينها.
لقد أغلظت كافة أيمانها الباطلة، حشدت بكل ما أوتيت من قوانين وأعراف جائرة حشودها المدججة المشيدة، أخذت العهد الآثم على نفسها، على بحارها ومحيطاتها، براكينها وزلازلها، ظلام ليلها الموحش ولهيب شمسها الحارقة، أخذت العهد على صروفها ومصائبها، على شياطين إنسها وجنها، أخذت العهد على أن تكسر أنفه وتذله وتهشم أضلعه وجوانبه، فإما أن تحيا وفق هواي أو فليقصم ظهرك وتفقأ عيناك وتستباح روحك وكرامتك للقاصي والداني من مشارق الأرض ومغاربها، تثأر منه، لا شيء سوى أنه فكر وعارضها يوما، تمرّد بقلبه قبل عقله على لعبتها الدائرة، لم يرغب أن يكون أحد أطراف تلك اللعبة القذرة.
حاول جاهدا أن يستجمع كل قواه القلبية والنفسية والذهنية والبدنية كي لا يستسلم، استحضر كل ما له من تاريخ حضاري وأممي وشعبوي حتى يصمد، حتى لا ينهار. لكن للأسف الدماء لا تزال تخرج من كل مكان، ففي البداية، ظن الأمر بسيطا، حسبه طفحا أو جرحا طفيفا على جانبي الأنف وعلى شدقه السفلي، وبأسرع ما يمكن سيتغلب على هذا الطفح، لكنه لم يكد يضمد جراحا ظنها بسيطة، حتى تفجرت الدماء كالبركان يغشي الجميع وينشر الهلع، فهل يتعلم من جراحه المثخنة، ويبقي على أية رقعة من جسده، ولو ضئيلة، بلا دماء؟
تهيج هائجته، تحملق عيناه الداميتان في الفراغ، تحملق في اللاشيء، يتلوى، يتمضمض، يفرغ من جوفه دما يعقبه دم ثم دم فدم، وبعد محاولات بائسة يائسة من أن يفرغ كامل جوفه من الدم الذي لا ينضب، يستسلم ويصمت خائر القوى والعزيمة، ويقع فريسة نفسه المهمومة المنكسرة، يلملم شتاته وحطامه سائلا ذاته: ما عساي فعلت؟!
قصفوا وقنصوا أهلنا وذوينا، ثم بفجر ووقاحة نجسة دنيئة، أشاروا علينا: هؤلاء هم الدواب الذين خربوا معيشتهم، ودهسوا ونهشوا جوارحهم ولحومهم...ما عساي فعلت؟!، قوموني وأخبروني ما عساي فعلت؟
تتساءل ما عساك فعلت! لا يزال لك صوت يتبجح ويثور، لا تريد أن تتعلم كيف تنكس رأسك وتخفض ناظريك، لا تزال تغريك أجنحة الحرية وأنفة الكرامة، دعها إذن تدور كما يحلو لنا، أليس أهون أن تنجب كائنات تعشش في الشقوق والجحور من أن تنسل دروعا بشرية أو حتى كائنات للتجارب النفسية والذهنية، دعها إذن تدور كما يحلو لنا وإلا ستبقى هائما تائها بين البحث عن حياة هنيئة مزعومة، وبين موت في هدوء وسلام.
حتما ستدور، لكن ليس كما تحلو لكم دائما، فلا الأحياء سيهدؤون أو تخمد ثورتهم الداخلية قبل الخارجية، ولا الأموات سيرقدون في هدوء وسلام. كلا، فقط حين نطفئ النار التي أضرمتموها في هشيمنا، فقط حين ينتفض من رمادنا ذرية جديدة، ذرية عنقاء معجونة من طين الوادي ومسبوخة بدماء النيل، تتخطفكم على مسمع ومرأى الجميع، ذرية تقتل فينا الدجل والنفاق والرياء، تعيد الأمور إلى نصابها، والحقوق المسلوبة لأصحابها، ولن نبتئس ما دام الحي يخرج من الميت، ونور الأمل يتمخض من ظلمة وكآبة اليأس.
هو يتكبد معاناة ليس قبلها ولا بعدها، ولعل ما يؤزم الموقف ويثير غيظه وحنقه، أنه لم يخطر له قط على بال أو خاطر أن يمر بكل تلك التجارب القاسية المريرة، والمهينة لكل مقومات إنسانيته، ولم ينتب أعتى هواجسه وأشدها تطرفا وتشاؤما، أن يصبح مطية ويهون هكذا على الحياة إلى تلك الدرجة البشعة، كأن هناك ثأرا أزليا مبيّتا، بينه وبينها.
لقد أغلظت كافة أيمانها الباطلة، حشدت بكل ما أوتيت من قوانين وأعراف جائرة حشودها المدججة المشيدة، أخذت العهد الآثم على نفسها، على بحارها ومحيطاتها، براكينها وزلازلها، ظلام ليلها الموحش ولهيب شمسها الحارقة، أخذت العهد على صروفها ومصائبها، على شياطين إنسها وجنها، أخذت العهد على أن تكسر أنفه وتذله وتهشم أضلعه وجوانبه، فإما أن تحيا وفق هواي أو فليقصم ظهرك وتفقأ عيناك وتستباح روحك وكرامتك للقاصي والداني من مشارق الأرض ومغاربها، تثأر منه، لا شيء سوى أنه فكر وعارضها يوما، تمرّد بقلبه قبل عقله على لعبتها الدائرة، لم يرغب أن يكون أحد أطراف تلك اللعبة القذرة.
حاول جاهدا أن يستجمع كل قواه القلبية والنفسية والذهنية والبدنية كي لا يستسلم، استحضر كل ما له من تاريخ حضاري وأممي وشعبوي حتى يصمد، حتى لا ينهار. لكن للأسف الدماء لا تزال تخرج من كل مكان، ففي البداية، ظن الأمر بسيطا، حسبه طفحا أو جرحا طفيفا على جانبي الأنف وعلى شدقه السفلي، وبأسرع ما يمكن سيتغلب على هذا الطفح، لكنه لم يكد يضمد جراحا ظنها بسيطة، حتى تفجرت الدماء كالبركان يغشي الجميع وينشر الهلع، فهل يتعلم من جراحه المثخنة، ويبقي على أية رقعة من جسده، ولو ضئيلة، بلا دماء؟
تهيج هائجته، تحملق عيناه الداميتان في الفراغ، تحملق في اللاشيء، يتلوى، يتمضمض، يفرغ من جوفه دما يعقبه دم ثم دم فدم، وبعد محاولات بائسة يائسة من أن يفرغ كامل جوفه من الدم الذي لا ينضب، يستسلم ويصمت خائر القوى والعزيمة، ويقع فريسة نفسه المهمومة المنكسرة، يلملم شتاته وحطامه سائلا ذاته: ما عساي فعلت؟!
قصفوا وقنصوا أهلنا وذوينا، ثم بفجر ووقاحة نجسة دنيئة، أشاروا علينا: هؤلاء هم الدواب الذين خربوا معيشتهم، ودهسوا ونهشوا جوارحهم ولحومهم...ما عساي فعلت؟!، قوموني وأخبروني ما عساي فعلت؟
تتساءل ما عساك فعلت! لا يزال لك صوت يتبجح ويثور، لا تريد أن تتعلم كيف تنكس رأسك وتخفض ناظريك، لا تزال تغريك أجنحة الحرية وأنفة الكرامة، دعها إذن تدور كما يحلو لنا، أليس أهون أن تنجب كائنات تعشش في الشقوق والجحور من أن تنسل دروعا بشرية أو حتى كائنات للتجارب النفسية والذهنية، دعها إذن تدور كما يحلو لنا وإلا ستبقى هائما تائها بين البحث عن حياة هنيئة مزعومة، وبين موت في هدوء وسلام.
حتما ستدور، لكن ليس كما تحلو لكم دائما، فلا الأحياء سيهدؤون أو تخمد ثورتهم الداخلية قبل الخارجية، ولا الأموات سيرقدون في هدوء وسلام. كلا، فقط حين نطفئ النار التي أضرمتموها في هشيمنا، فقط حين ينتفض من رمادنا ذرية جديدة، ذرية عنقاء معجونة من طين الوادي ومسبوخة بدماء النيل، تتخطفكم على مسمع ومرأى الجميع، ذرية تقتل فينا الدجل والنفاق والرياء، تعيد الأمور إلى نصابها، والحقوق المسلوبة لأصحابها، ولن نبتئس ما دام الحي يخرج من الميت، ونور الأمل يتمخض من ظلمة وكآبة اليأس.
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير