أحمد فؤاد نجم يحكي حواديت القلعة (1/2)
أترككم اليوم وغداً مع بعض ما حكاه عمنا أحمد فؤاد نجم عن (حواديت القلعه)، وقد بدأ حواديته بمقطع من أشعاره عن تجربة السجن المريرة.
...
حواديت القلعه
السجن؟
ما فيش في السجن زمن
الوقت؟
مالوش في السجن تمن
أيام بتمر
وليل بيجر نهار
ويعدي
واحنا في دوامه
والأفكار
بتجيب..وتودّي
...
سؤال فني مالوش إجابه ـ هل ممكن أن تنشأ عداوه بين الكائن الحي والزمن؟
معلوماتي بتقول إن العداوه ممكن تنشأ بين دوله ودوله أو بين حاكم ومحكوم أو بين قبيله أو قبيله أو بين حزب سياسي وحزب سياسي أو حتى بين فرد أو فرد لأن المصالح أحيانا تتعارض مع بعضها وهنا يتحول أصحابها إلى وحوش تسود بينهم لغة العداوه اللي هي لغة المخالب والأنياب والعياذ بالله
لكن لما تنشأ عداوه بين إنسان ويوم من أيام الزمن يبقى أكيد واحد فيهم مجنون أو هما الإتنين في الضربان الشديد وهو ده اللي حاصل بيني وبين يوم خمستاشر مايو من كل عام لأن المذكور حاططني في دماغه وكل حين ومين يفاجئني بحركه نص كم مالهاش أي مبرر!
في سنة 1948 قرر مجلس الأمن الدولي تقسيم فلسطين العربيه بين العرب واليهود واللي حصل بعد كده آدينا لسه بنعيشه وفي 15 مايو سنة 1957 تم الطلاق بيني وبين زوجتي الأولى أم عفاف وخدت عفش البيت وسابتني نايم ع البلاط وفي 15 مايو سنة 1971 حصلت حركه نص كم مزدوجه فقد وجّه الثنائي العجيب محمد أنور السادات ومحمد حسنين هيكل ضربه حره مباشره لحكومة مراكز القوى التي اضطهدتني ولفقت لي التهم واعتقلتني بتهمة تأليف الشعر!! وكان ده هو النص الحلو من الحركه أما النص اللي مش ولا بد فكان هو وثوب محمد أنور السادات على كرسي الملك في مصر المحروسه بعد ما أكل شريكه ضمن من أكل واتفرغ لي أنا بقى وكل ما أخرج من المعتقل يرجعني تاني في إطار سيادة القانون!!
أما يوم 15 مايو سنة 1969 فكان عيد ميلاد خطيبتي ـ لاحظ سيادتك إنها سايبه 365 من السنة ومِنشِّنه ع اليوم المنيل بستين نيله ده ومولوده فيه وبيني وبينك أنا لغاية وقتنا هذا مش مصدق إنها مجرد صدفه وبيتهيأ لي والله أعلم أن الموضوع فيه وَلَس ـ كان بيت أهل خطيبتي في إمبابه وكنت عازم كوكبه من الأصدقاء على عيد الميلاد المزعوم وحوالي الساعه سته مساءً وصل العميد عادل بسيوني من مباحث أمن الدوله فرع الجيزه ليصطحبني في منتهى الهدوء أولا إلى قسم إمبابه حيث تم تفتيشي بدقه ثم انطلقت بنا السياره إلى قلعة الناصر صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومحرر بيت المقدس ليبدأ الفتى الفاجومي مرحلة جديده من حياته العجيبه
وقلعة الناصر صلاح الدين بالنسبه لغالبية الشعب المصري هي قطعه من التاريخ المجيد وبالنسبه للسياح وخبراء الآثار هي تحفه معماريه تستعصي على التقليد والفناء وبس. أما بالنسبه لزوار الباب الشرقي وأنا واحد منهم فالمسأله تختلف. والباب الشرقي تتوسطه كوّه ينحني الداخل منها حتى تكاد جبهته أن تلامس الأرض. وبمجرد ما يصبح بالداخل يكتشف إنه رحل في الزمن مئات السنين.. إلى الخلف طبعا.
ولو موصوف له حفلة استقبال من الساده المتخصصين في مبنى لاظوغلي بيكونوا الزبانيه على علم بذلك وقبل ما يصلب طوله بعد عبور كوة الباب بيكون حاسب له على تلاتين أربعين شومه غير الفكه. ومن مراسم حفلة الإستقبال الأساسيه تجريد الزائر من جميع ملابسه بواسطة خبراء التقليع في معتقل القلعه الرهيب والمدهش في الأمر إنهم بيقوموا بهذه المهمه أثناء نزول مطر الشوم والكرابيج دون أن يصاب أحد منهم بأذى وفي وسط هذا الجو الإحتفالي الأسطوري يأتيك صوت الضابط
ـ اسمك إيه ياد؟
فتزداد سرعة صعود وهبوط الشوم بينما الأصوات مجهولة المصدر تردد
ـ رد ع البيه ياد.. رد ع الباشا يا بن الشر...
ـ طب بلاش إسمك.. أمك اسمها إيه؟
ـ انطق ياد.. رد ع البيه..أمك اسمها إيه؟ إنطق يا بن المتـ....
وفي نهاية حفل الاستقبال يشيلوك اتنين مخبرين شداد غلاظ يفعلون ما يؤمرون ويحدفوك في زنزانه انفرادي ع الأسفلت وبمجرد ما يقفلوا عليك الباب يجتاحك إحساس بالراحه والنجاه رغم أنف الرضوض والكدمات والآلام المتخلفه عن حفلة الإستقبال ومن هذه اللحظه تنسى إسمك وتاريخك وتتحول إلى رقم هو رقم زنزانتك روح يا خمسه تعالى يا سته زياره يا تلتاشر جلسه يا واحد واربعين.. وهكذا سعادتك يحصل لك الإنفصال التام عن العالم فتبدأ تكلم الحيطان والحيطان في معتقل القلعه مليانة حواديت
أسماء وتواريخ محفوره بالأظافر وأحلام ورديه من خلال شعارات جميله وأحيانا أشعار تتحدى السجن والسجان، وفي الزنزانه رقم 3 التي بدأت منها رحلتي الطويله قرأت على الحيطان ـ أحمد نبيل الهلالي المحامي ـ نحن الذين يموت أجملنا.. ليحيا الأخرون بلا دموع ـ غداً ترفرف الراية الحمراء على وادينا الأخضر ـ دولة الظلم ساعه ودولة الحق إلى قيام الساعه ـ ولينصرن الله من ينصره ـ إن بطش ربك لشديد ـ بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي
وفي الأيام الأولى للضيف الجديد يتعرض لمجموعة من الضغوط النفسيه بحرمانه من الإمتيازات التي يتمتع بها غيره من قدامى المعتقلين.. ما فيش نور في الزنزانه. ما فيش سجاير.. ما فيش خروج من الزنزانه إلا إلى دورة المياه مره واحده في الأربعه وعشرين ساعه وحسب مزاج المخبر! ما فيش فرش ولا غطا وإذا سألت أي مخبر ـ ليه بتعملوا معايا كده؟ ـ يقول لك لمصلحة التحقيق! ـ ما فيش زيارات.. ما فيش علاج مهما كان نوع المرض الذي يعاني منه الضيف الجديد لأن الهدف من الاعتقال هو تحطيم الزبون نفسيا وصحيا وأنا فاكر مره أضربت عن تناول الطعام بسبب سوء المعامله فتركوني على أمل أن تنهار مقاومتي بسبب قرحة المعدة التي كنت أعاني منها وتجاوزت الأيام الثلاثه الأولى وهي أصعب أيام الإضراب
وفي اليوم الرابع بدأوا المساومه على خفيف ومن خلال عبارات متناثره على ألسنة المخبرين ـ بتعمل في نفسك كده ليه؟ ـ يا ابني كُل ما حدش حيسأل عنك ـ اللي انت بتعمله ده غلط عليك انت ـ والغريب في الأمر إن العبارات دي زادتني إصرار على الإستمرار في الإضراب وبحلول اليوم العاشر دخل عليّ طبيب المعتقل وكشف عليّ بالسماعه وهو قاعد على قرافيصه لأني كنت نايم على أسفلت الزنزانه وفجأه التفت للمخبر الممرض وقال له ـ روح هات ميزان الحراره ـ وأول ما خرج المخبر من الزنزانه همس في ودني ـ الدكتور ألبير بيسلم عليك. لو قدرت تستمر في الإضراب كمان أربعه وعشرين ساعه حتحقق اللي انت عايزه و..
دخل المخبر الممرض بميزان الحراره.. وبعد خروج الطبيب بحوالي نصف ساعه دخل علي الضابط رضا عبد السلام الذي أشرف على حفلة استقبالي.. كان لابس وش تاني وقال لي بمنتهى الود ـ لو قلت لي طلباتك أقسم لك بشرفي أنا اللي ح أنفذها لك! ـ وحسيت إني أقوى منه فلم أفلت الفرصه وقلت له ـ أخرج برّا يا كلب الحراسه يا إبن الزواني ـ والغريب إنه خرج فوراً وفي اليوم الحداشر جاني الضابط سمير حسنين وسبحان الله بمجرد ما دخل الزنزانه حسيت تجاهه بموده ما اعرفلهاش مصدر حتى الأن ولا سبب! وبمجرد ما بصيت في وشه غمرني إحساس بالراحه.. وش مصري جميل ما فيهوش خبث ولا دناءة الوش التاني
قال لي ـ صباح الخير أولا ـ قلت له ـ صباح النور ثانيا ـ ضحك وقال لي ـ إنت لسه فيك نِفس تنكّت؟
في اليوم الاتناشر اتفتح باب الزنزانه في إطار عملية تسليم وتسلم الجثث اللي همّا احنا ولا فخر. وقد شرح لي عبد العزيز المخبر المتعلم الوحيد هذه العمليه قائلا
ـ ما هو أنا يا أستاذ أحمد لما آجي في ميعاد ورديتي مش ح استلم من زميلي سمك في ميه لازم أفتح الزنازين زنزانه زنزانه عشان أتأكد إن الجثه على قيد الحياه لكن عشان ما تبقاش العمليه فجّه فلازم في لحظة فتح الزنزانه أقول صباح الخير أو مساء الخير ده نظام إنجليزي والتعليمات كده
نرجع بقى لليوم الإتناشر اتفتحت الزنزانه ولقيت محمد عبد المقصود المخبر بيقوللي
ـ صباح الخير
قلت له
ـ مش باين
ومحمد عبد المقصود ده مش بني آدم من أصله. وعشان أرسم لك صوره تقريبيه عنه. يوم مولد النبي نسف تلاته وعشرين ربع فرخه في طقّه واحده ودي حدوته نوصل لها إذا كان في العمر بقيه
قعد محمد عبد المقصود على قرافيصه واداني أهم درس نفعني وحماني من المرض طول فترات الاعتقال اللي عشتها بعد كده ولأني كنت مصدقه وهو بيتكلم استوعبت الدرس اللي علمني أحافظ على صحتي البدنيه والنفسيه وخرجت من كل هذه المحن سليم العقل والبدن. قال لي
ـ الأول لازم تفهم إنك بالنسبه لي نمره وباب رزق.. ما تزعلش مني يعني انت ما تهمنيش كلب يروح ييجوا عشره وإن قفلت طابونة العيش يبقى المعتقل يقفل. لكن انت بصراحه عجبتني يوم حفلة الاستقبال.. عارف لو قلت آي ولّا أنا في عرض النبي والحاجات دي؟ كنت نزلت من نظري. وأحب أقول لك إن التعليمات بتقول لنا إن اللي يخش القلعه ويطلع ماشي على رجليه يبقى احنا مالناش لازمه.. انت بقى باللي بتعمله ده مش حتطلع ماشي على رجليك.. فهمت؟
قلت له
ـ هات الأكل
قال لي
ـ لأ يا عبيط.. استنى لما الضابط ييجي يقنعك.. التعليمات بتقول كده!
...
نكمل غداً بإذن الله.