في ظل هذه الأجواء، يصل أردوغان إلى باريس، اليوم الجمعة، في أول زيارة لهذا البلد، منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في بلاده منتصف 2016، ومنذ وصول إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية. ولكن الاتصالات، كما اللقاءات في مؤتمرات دولية، لم تتوقّف بين الرئيسين، منذ انتخاب ماكرون، وخصوصاً أن القضايا التي تشغل البلدين كثيرة ومتشعّبة، وخصوصاً القضية السورية وما يتمخّض عنها من قضايا المهاجرين واللاجئين، وأيضاً الدعم الذي تقدمه تركيا لفرنسا والأوروبيين في ما يخصّ مكافحة الإرهاب ومطادرة الإرهابيين الأوروبيين وتسليمهم لبلدانهم.
واستباقا لأي انتقادات قد يتعرّض لها ماكرون بسبب هذا اللقاء، الذي ستعقبه مأدبة غداء على شرف الرئيس التركي "الشريك الأساسي"، كما سماه ماكرون قبل أسابيع، فقد صرّح الإليزيه بأنّ قضية حقوق الإنسان في تركيا ستكون على طاولة المحادثات بين الرئيسين، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية وما أعقبها من اعتقالات ومحاكمات مستمرة، جعلت الحزب الشيوعي الفرنسي يبادر لانتقاد هذه الزيارة بشدة. وإلى جانب هذا الموضوع الحسّاس، الذي يفضل ماكرون أن يتناوله بشكل ثنائي، كعادته، وفي جوّ محاط بالتكتم، وفق مبدئه "التزام خطاب حقيقة وبراغماتية"، لن يؤثر ذلك على عزم بعض المعارضين الأتراك والأكراد على تنظيم تظاهرة من أجل "الحقيقة والعدالة"، بخصوص مقتل ثلاثة قياديين أكراد في فرنسا قبل سنوات، تُتَّهَم أنقرة بتدبير عملية اغتيالهم.
كما أعلن الإليزيه أن الرئيسين سيتباحثان في قضايا عديدة تهم الجانبين، لا سيما الملف السوري، وأيضاً القضية الفلسطينية، خصوصاً بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانفرادي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وبعد القمة الإسلامية التي ترأسها أردوغان، والتي عارضت القرار الأميركي.
زيارة لتبديد التوتر المتراكم
وتأتي زيارة أردوغان إلى فرنسا، بعد فترة من التوتر في العلاقات التركية الأوروبية، دفعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في بداية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، للتهديد بوقف كل المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، خصوصاً بعد منع الكثير من الحملات الانتخابية في هولندا وألمانيا، لأنصاره، ومنع بعض وزرائه من التحدث العلني إلى مواطنيهم الأتراك، وهو ما اتخذت فيه فرنسا، مع الرئيس السابق فرانسوا هولاند، موقفاً متساهلاً مع الأتراك.
وإذا كانت ميركل لا تزال منشغلة بتشكيل حكومتها، في الوقت الذي انسحب فيه البريطانيون من الاتحاد الأوروبي، وتصعد إلى السلطة حكومات أوروبية معادية للمسلمين في أوروبا، بشكل علني، فإن زيارة أردوغان لفرنسا تكتسي أهمية في الانفتاح الذي تأمل فيه تركيا، خصوصاً بعد تدهور العلاقات مع إدارة ترامب، وأزمة وقف تأشيرات السفر بين البلدين.
ويتميّز ماكرون ببراغماتية عالية تجعله لا يلجأ، كما أسلافه، خصوصاً نيكولا ساركوزي، إلى تصريحات صادمة من قبيل "تعلم تركيا أنها لن تكون جزءاً من أوروبا". كما أن التصريح الفرنسي لماكرون عن تركيا باعتبارها "شريكاً أساسياً"، يراد منه عدم التفكير في قطيعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي لأنها لن تكون في مصلحة أحد.
ولن يغيب الاقتصاد والسلاح عن المحادثات، وهو مرشّح للازدياد، خصوصاً أن التبادل الاقتصادي بين البلدين عام 2016 تجاوز 13 مليار دولار. كما أن تركيا عبّرت عن نيتها شراء أسلحة فرنسية، ومن بينها صواريخ أرض جو من إنتاح كونسورتيوم فرنسي وإيطالي "أوروسام".
وينسى كثيرون في خضمّ ما يرون فيه نوعاً من إعادة "أسلمة" المجتمع التركي ومحاصرة العلمانية الكمالية المتراجعة، وأيضاً في خضم الانفتاح العسكري والسياسي على روسيا، وهو ما جعلها تشتري منظومات دفاعية روسية متطورة، بسبب تلكؤ أميركا في الاستجابة، أن تركيا لا تزال عضواً فعّالاً في حلف شمال الأطلسي، وأنها تمتلك أحد أقوى الجيوش فيه. كما ينسى آخرون أن تركيا لا تزال، رغم كل توتراتها الأوروبية، وفيّة لاتفاق عام 2015 مع الاتحاد الأوروبي بخصوص وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا، مع ما يكلفها، على الصعد الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. وهو اتفاق جنّب الأوروبيين تضحيات كبيرة، اقتصادية وأمنية، باعترافهم، وهم غير مستعدين لوضع حدّ له.