أزمة الخليج وكسر العظم

14 يونيو 2017
+ الخط -
مع طي الأزمة الخليجية أسبوعها الأوّل، يُمكن القول إنّها تجاوزت عنصر الصدّمة الذي كان تحالف الدول المقاطعة بقيادة السعودية يعوّل عليه لإرباك قطر ودفعها إلى رفع الرّاية البيضاء سريعاً.
الإجراءات السّياسية والاقتصادية التي لم يسبق للدول الخليجية أن مارستها بحق دولةٍ عضو في مجلس التعاون الخليجي تفيد بأنّ الرياض كانت تسعى، مع حلفائها، إلى حسم المواجهة لصالحها بأقصى سرعة ممكنة في سباق مع الأيّام، وحتّى السّاعات. كانت أشبه بهجوم سياسي واقتصادي خاطف، مدعوماً بغطاء سياسي من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإخضاع الدّوحة، لكنّ ذلك لم يحصل بفعل عوامل عديدة. أزمة سحب السفراء في 2014 دفعت القطريين إلى التحسّب جيّداً لهذا اليوم. استثمار مالي ضخم في دول العالم، وتحالف سياسي متين مع تركيا وعلاقة ودّية مع إيران ظهرت نتائجها سريعاً في أولى ساعات الأزمة.
كان من الطبيعي أن يؤدي ذوبان عنصرالمفاجأة سريعاً إلى إخراج الأزمة عن طابعها الخليجي والعربي. يدرك المراقب لما رست عليه بورصة المواقف الإقليمية والدّولية من الصراع أنّه لم يعد محصوراً في نطاقه الخليجي والعربي، أو حتّى الإقليمي. ربّما لم يتوقّع السعوديون وحلفاؤهم الأبعاد التي أخذتها الأزمة. لم يكن موفقا توقيت اختيار الحملة على قطر في لحظة دولية مضطربة أحدثها فوز ترامب برئاسة أميركا. وأعطى تعويل تحالف المقاطعة على دعم ترامب نتائج عكسية لسبيين، ترامب وجد نفسه في مواجهة المؤسسات الأميركية الرافضة حصار قطر، وموقف غربي ممتعض من ترامب يتحيّن الفرصة لمواجهته. كانت أزمة الخليج الفرصة السانحة لإظهار التحدّي له. لم تعد المواجهة خليجية خليجية، بل مواجهة بين حاقد على ترامب ومتودّد له.
عربياً، لم يخالف الوضع التوقّعات، انقسام في دعم الحملة على الدوحة، و دول مجلس التعاون الخليجية منقسمة بطبيعة الحال على نفسها ما بين منضوٍ تحت العباءة السّعودية وما بين خارج عنها مثل قطر، وطرف آخر يلتزم الحياد، وفضّل لعب دور الوساطة كالكويت وسلطنة عمان. هاتان الدّولتان تُركتا لهذا الدّور. أخفقت الرّياض في دفع كل الدول العربية وحتى المحسوبة عليها إلى صفّها. فالأردن مثلاً طالب السفير القطري بمغادرته، لكنّه لم يقطع العلاقات. موقفا لبنان والعراق تحصيل حاصل، لأنّهما يدوران في الفلك الإيراني مع بعض الاستثناءات على الوضعية اللبنانية. لم نسمع للسلطة الفلسطينية موقفا سوى الدّعوة إلى الحوار. حتّى المغرب التي تربطها علاقة وثيقة بالسعودية خالفت توجّه الرّياض، وقرّرت كسر الحصار بإرسال مواد غذائية إلى قطر من بوابة الواجب الديني والإنساني.
إقليمياً، اصطفاف الأتراك إلى جانب القطريين متوقّع. ذهبت أنقرة إلى ما هو أبعد من الدعم السياسي والاقتصادي، وسارعت إلى إقرار نشر قوات عسكرية في قطر.فتحت إيران مجالها الجوي أمام المساعدات التركية لقطر، وأرسلت مواد غذائية لها عبر البحر. ولا ينبع موقف طهران من علاقات جيّدة مع الدوحة التي شكلت سياساتها في سورية والعراق تحدّياً للمشروع الإيراني، بل انطلاقاً من قاعدة "عدو عدوي صديق لي". ويعتبر الإيرانيون، على الرغم من علاقاتهم المتوتّرة مع دول الخليج بمن فيها قطر، سقوط الدوحة انتصاراً للسعودية، سيمكّنها من إحكام قبضتها على القرارين الخليجي والعربي. هذا إن حصل سيضع إيران في مواجهة مع غالبية العرب، وليس فقط مع من يُحسبون على السعودية.
دولياً، يتجلّى الاستقطاب في أبهى صوره. اتخذ الأوروبيون قرارهم بدعم قطر. ينطلق الموقف الأوروبي من أمرين أساسيّن، الأول أن عدم الاستقرار في الخليج مصدر النفط والغاز للعالم سينعكس توتراً عالمياً في السياسة والاقتصاد. الثاني، ينبع من رغبةٍ بالتحدي لتوجّهات ترامب العالمية، فهو يتعامل معهم بفوقيةٍ، لم تشهدها العلاقات الأوروبية الأميركية الحديثة من قبل. في اجتماعي حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومجموعة السّبع الاقتصادية الأخيرين، احتقرهم إلى أبعد الحدود، وانسحابه من اتّفاقية باريس للمناخ وضعهم في مواجهة معه. صفقات الأسلحة الضّخمة التي أبرمها في الرّياض اعتبرت أوروبيا إطلاق العنان لسباق تسلّح عانى منه الأوروبيون الأمرّين. وجاءت الفرصة إليهم لإلحاق الهزيمة بترامب، في أول تحدٍّ خارجي له.
في خضم هذا المشهد الدّولي المعقّد، لم يعد التّحذير من مغبّة أقلمة الصراع أو تدويله يُجدي نفعاً، لأنّ الأمرين أصبحا واقعاً. والأزمة التي أريد لها أن تكون خليجية خليجية أو خليجية عربية لم تعد كذلك. أصبحت دوليّة بكل المقاييس. تحوّلت إلى معركة "كسر عظام" الرابح فيها خاسر. والخسارة هنا ليست خسارةً عاديةً في الحسابات السياسية الضيّقة، بل إن تداعياتها استراتيجية على الكل. بات التحذير من عواقف استمرار الأزمة في سلوكها الحالي. السعودية قلب العالم الإسلامي، وكسرها انتكاسة كبرى. وقطر جزء من العالم العربي والخليجي، وهزيمتها يُضيفها إلى قائمة الهزائم العربية في زمن أحوج ما تكون فيه شعوب المنطقة إلى انتصار، أو على الأقل وقف سلسلة الهزائم والانهيار المؤسّساتي لدولها.

8A4E1DEC-A2B5-4470-BAC0-1254987D9C0A
8A4E1DEC-A2B5-4470-BAC0-1254987D9C0A
محمود علوش (لبنان)
محمود علوش (لبنان)