تفجَّرت قضية الغاز الصخري الشائكة من جديد بمجرَّد صدور تصريح للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بضرورة استغلال هذه الثروة في ظل تنامي الاستهلاك الوطني منها، مما قد يؤثِّر على الكميات المصدَّرة إلى الخارج والأرباح الناتجة عن ذلك.
ومحاولة النبش في هذا الملف الحسَّاس وفي هذه الضائقة المالية التي يتخبَّط فيها الاقتصاد الجزائري ما هي إلا دليل على فشل كل محاولات التنويع الاقتصادي وانعدام بدائل أخرى لإنعاش خزينة الدولة، كما يُعدّ ذلك دليلاً آخر على التمهيد لحقبة زمنية أخرى من استمرار الكسل والاتِّكال على ريع المحروقات، فكم من نعمة ظاهرة في طيِّها نقمة باطنة.
كان هناك اعتقاد كبير بأنّ انخفاض أسعار النفط سيشكِّل فرصة ذهبية لإيقاظ الحكومة من سبات التبعية العمياء لعائدات البترول والغاز، حتى تشمِّر عن سواعدها وتأتي بخطة تنتشل البلد من مأزقه، وتستعيد الأموال المنهوبة وتقتلع جذور لعنة الموارد التي أصابت الجزائر منذ حصولها على الاستقلال، لكن على العكس تماماً لم يطرأ أيّ تغيير على نمط تفكير الحكومة الذي لم يتجرَّأ لحدّ الساعة على النظر خارج صندوق الذهب الأسود وباقي أنواع المحروقات.
وتغيب روح الإبداع عن القرارات الحكومية مهما تعالت أمواج الأزمات الاقتصادية، وهكذا ستتَّسع رقعة التخلُّف الذي يرزح تحت وطأته الاقتصاد الجزائري ويطارد حياة الشعب الجزائري بلا هوادة.
ولم تتمكَّن كل الحكومات الجزائرية على مدار سنين طويلة من الخروج من دائرة اقتصاد الريع، والتخلُّص من أصفاد التبعية المفرطة لقطاع المحروقات، وها هي الحكومة الجديدة تكرِّر ما فعلته نظيراتها السابقة لتثبت أنّ الشعارات المنادية بالتنويع الاقتصادي من خلال مواكبة الثورة الصناعية الرابعة لا تعدو كونها محض خرافة لا علاقة لها بالواقع. وما إن ترتفع أسعار النفط وتتحسَّن ستعود هذه الحكومة إلى عادة سابقاتها في تبذير المال العام يمنة ويسرة، وشراء السلم الاجتماعي في محاولات مستميتة لصدّ كل الأبواب في وجه التغيير ومحاربة الفساد الذي ضرب أطنابه لعقود عديدة.
وهناك تناقض كبير بين الإعلان عن فتح ملفّ الاستثمار في الغاز الصخري، والبحث عن إمكانيات الإقلاع الاقتصادي بغضون العام 2030 الذي تتولَّاه الوزارة المنتدبة المكلَّفة بالإحصائيات والاستشراف، والتي تغرِّد خارج السرب كما هو ملاحظ. قد يكون الغاز الصخري نعمة على شعوب أخرى كشعوب الدول الإسكندنافية التي لم يصبح اقتصادها مرهوناً للحظة بالنفط، ولكن لن يكون نعمة إطلاقاً على شعوب تعوَّدت على الاستيراد وتأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع.
يتطلَّب استخراج الغاز الصخري في الجزائر، الموجود داخل الصخور على أعماق كبيرة في باطن الأرض، التحكُّم في التكنولوجيا الحديثة التي تفتقر لها حالياً الشركة الوطنية لنقل وتسويق المحروقات "سوناطراك"، وهذا ما يستدعي الدخول في شراكات أجنبية ليس فقط لاستخراج ذلك الغاز، بل لتكوين آلاف العمال والكوادر والخبراء أيضاً، لا سيَّما في ظلّ هروب المهندسين والتقنيين والكفاءات المتخصّصة في مجال الطاقة إلى دول الخليج وأوروبا وأميركا الشمالية.
وعلاوة على التكلفة الباهظة لاستخراج الغاز الصخري، هناك مخاوف كبيرة بشأن الأضرار المباشرة على البيئة والمياه الجوفية من خلال استخدام تقنية التكسير الهيدروليكي أو التصديع المائي "Hydraulic Fracturing"، والتي تعدّ من أكثر الطرق استخداماً لاستخراج هذا النوع من الغاز، حيث تعتمد تلك التقنية على تكسير الصخور باستعمال سائل مضغوط مكوَّن من ماء ورمل ومزيج من المواد الكيماوية، وتزداد خطورة استخدام هذه التقنيات عند الاكتفاء بالوسائل التكنولوجية غير المتطوِّرة وغير الآمنة.
وحتى إن تناست الحكومة الضَّرر البيئي الذي سيلحق بسكان الجنوب الجزائري، فلا يمكن لها أن تتجاهل الواقع الذي يفيد بأنّ فوائد استغلال الغاز الصخري ستكون ضئيلة جدّاً مقارنة بتكاليف استخراجه الباهظة، فسعر الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية لا يتعدَّى دولارين، وتراجع بشدة بعد جائحة كورونا، وهناك صعوبة جدّ كبيرة في إيجاد مشترين في ظلّ المنافسة المتزايدة والطاحنة في أسواق الغاز العالمية، فمن المعلوم أنّ إمدادات الغاز الروسي والقطري هي الأرخص ثمناً في العالم والأقوى تنافسية، وبالتالي ستكون الفرص التي ستُحقِّق فيها الحكومة الجزائرية مكاسب كبيرة من استخراج الغاز الصخري شبه معدومة، فالأجدر ترك تلك الثروة بباطن الأرض عملاً بمبدأ المساواة بين الأجيال وأملاً في ترك فسحة للتغيير.
لا يمكن التمسُّك بحجّة تحقيق عائدات مالية ضخمة من تصدير الغاز الصخري، فهذا خطأ فاضح وبُعد عن الصواب واضح، لذلك ينبغي على هذه الحكومة التفكير جدّياً في إخراج مشروع الطاقة الشمسية في الصحراء الجزائرية إلى النور، وإعادة إحيائه من أجل تأمين حاجيات المواطنين من الكهرباء، حيث تعتبر الصحراء الجزائرية، التي تبلغ مساحتها 80 بالمائة من المساحة الإجمالية، خزَّاناً هائلاً للطاقة الشمسية في حوض البحر المتوسط، والتي إن استغلّت جيّداً ستنتج ما يعادل 5000 مرّة من الاستهلاك السنوي للكهرباء في البلاد.
أليس من الغريب والعجيب، بل من المدهش المعيب أن تفشل الجزائر وبهذه المواصفات في تجسيد هذا الحلم الضائع على أرض الواقع، في الوقت الذي تنجح فيه جارتها المغرب في تدشين مجمّع نور للطاقة الشمسية في مدينة ورزازات، والذي يعدّ من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم.
ومن غير ثروات النفط والغاز التي عوَّدت الحكومة الجزائرية على تلقِّي الأموال بكل سهولة وأريحية، وعزَّزت افتقارها للإرادة السياسية لتبنّي هكذا مشاريع استثمارية ذات فوائد جمّة وخيالية، ولكن الصدمات النفطية والأزمات المالية ستُركِعها مجدّداً وتخضعها لضرورة البحث عن بدائل أكثر فاعلية كالاستثمار في الطاقات المتجدِّدة لدفع عجلة التنمية الاقتصادية.
خلاصة القول، إنّ التنويع الاقتصادي لم يتحقَّق يوماً بالإملاءات الخارجية، ولن يأتي طبعاً بالتمسُّك الأعمى بالموارد النفطية والغازية، بل سيتجسَّد حتماً من خلال رسم خطط إستراتيجية بوضع أهداف واقعية وتحديد الأولويات بفعالية، وكل ذلك يتمّ أولاً بإبداء رغبة سياسية عالية في الالتزام بتنويع القطاعات غير النفطية، عسى ولعل أن يُكتب الشفاء والتعافي للاقتصاد الجزائري بترياق الشفافية والحرية الاقتصادية، وأن يصبح الفساد الذي ساد البلاد صفحة مطوية.