14 نوفمبر 2024
أزمة حليب الأطفال في مصر: سياسات اقتصادية سلطوية
أثارت أزمة ندرة حليب الأطفال في مصر ردود فعل واسعة، فكانت الأكثر تداولاً ونقاشاً، نظرا لحساسية الأزمة وتعدد أطرافها. في البداية، تظاهرت الأمهات مطالباتٍ بحل الأزمة، ليست المظاهرة الأولى التي تقودها النساء، فالمصريات، كما تروي لنا فصول الحركة الاجتماعية، هن صوت المعاناة الذي يعكس حجم الأزمات، ويفضح صوتهن محاولات تزييف الواقع وإشاعة وهم السعادة بالتمنّي، أو الرضا بالمعاناة التي يروّجها النظام. يعلمنا التاريخ الإنساني أن المحتجّات هن درع لدرء المخاطر وانتزاع الحقوق، والدفاع عن الشعب ككل. ليست المصريات فحسب المتميزات في مجابهة الواقع ونقده ومحاولة تغييره، فكثيرة هي أحداث التمرّد الاجتماعي، التي قادتها النساء، بل لا يكتمل المشهد، أو قل لا يبدأ غالباً، إلا بمشهد نسوي احتجاجي، سواء اتخذ مشهد الوضوح أو التخفّي، رمزياً كان أو صريحاً.
بدأت انتفاضة الخبز التونسية عام 1984 حراكاً نسويا، تظاهرت فيه عشرات العاملات في ناحية المبروكة ضد قرارات رفع الأسعار، ثم توسعت المظاهرات، لتجبر بورقيبة على إلغاء قراراته، ولا نبالغ إذا قلنا إن صوت النساء الاحتجاجي دلالةٌ على الاحتقان الاجتماعي، وبشارة بأن أمواجه ستمتد. حملت عاملات الغزل والنسيج في نيويورك الخبز والورود عام 1908، وطالبن بظروف عمل إنسانية، كتحديد ساعات العمل والمشاركة السياسية والأجر العادل. بعد مائة عام، في عام (2008)، أشعلت عاملات المحلة انتفاضة شارك فيها مئات الآلاف وأسقطت صورة الديكتاتور حسني مبارك. من هنا، لا يمكن أخذ هذه الواقعة بشكل عابر، فهي حدث ذو دلالاتٍ يمكّننا من فهم حالة المجتمع المصري ومزاجه العام وموقفه من الأزمة الشاملة.
المرأة التي تربي أطفالها، وتعاني في تدبير شؤون منزلها، متأثرة بارتفاع الأسعار، تشعر بالأزمة الاقتصادية بشكل أعمق. المطالبات بتوفير حليب الأطفال يتشاركن المعاناة وبؤس العيش فيحتججن. إنهن عينة من الشعب المصري الذي يعاني من سياسات السلطة. المحتجات لسن نساء السلطة اللواتي يطالبن الشعب بتحمل التقشف وغلاء الأسعار، وهن يطللن من شاشات التلفاز، ثم يرجعن إلى أحيائهن الغنية المعزولة. يمتد الوطن، بالنسبة إلى أغلب الأمهات، من حدود المنزل وهموم الأطفال ويتصل بأحلامهن بوطن عادل آمن يحفظ كرامة مواطنيه، ولا يذلهم من أجل علبة حليب مدعمة.
منذ عشر سنوات، وصدى أصوات نساء مصنع سيد للأدوية يتردّد في الذاكرة. المصنع الضخم الذي يلبي جزءاً من احتياجات السوق، وخصوصاً أدوية الأطفال، يتعرض لمشكلات عديدة، مثل عدم تطوير إمكانياته، وتعطيل قدراته الإنتاجية، ناهيك عن الظلم الواقع على العاملين فيه، ومعظمهم من النساء. في أثناء مشاركتي ببحث عن "النساء وسوق العمل"، حكت إحدى العاملات كيف تبدأ يومها من حلوان (جنوب القاهرة) إلى المصنع في منطقة الهرم، شمال الجيزة، تقطع ما يزيد عن أربعين كيلومتراً متنقلة بين ثلاث من وسائل المواصلات. أما زميلتها الكيميائية، فحكت عن خروج والدها على المعاش المبكر واستيلاء أحد رجال الأعمال على المصنع، الذي يعمل فيه، بثمن بخس، وتخشى الكيميائية أن يصبح مصيرها كمصير والدها. لم تُخفِ قلقها متنقلة بين الهم الشخصي والهم العام الذي يرصد إهدار موارد الوطن من مصانع هي عماد تقدم أي مجتمع. وفي مقابلة مع أحد المسؤولين في المصنع، أكد أن توفير الأدوية مسألة أمن قومي، وأنهم تلقوا تدريبات مكثفة في هذا الشأن، لمواجهة أية أزمة، خصوصاً وأن بعض الأدوية لا يمكن الاستغناء عنه، أو الاعتماد على الاستيراد خياراً بديلاً عن التصنيع.
أعلنت وزارة الصحة المصرية، في أبريل/ نيسان الماضي، أن مخزون حليب الأطفال يكفي خمسة أشهر، وأن الحكومة استبدلت الاستيراد بالأمر المباشر إلى مناقصة لاستيراد الحليب، بينما فوجئت الأمهات بإعادة هيكلة نظام صرف الحليب، ليقلص الحالات المستحقة للدعم، كما خفضت كمية الحليب المدعمة من 23 مليون علبة إلى 18 مليون علبة سنوياً. ارتبط القرار بتوجهات الحكومة لتقليص موازنة (وخدمات) الصحة المنخفضة أساسا، كما تم تقليص مراكز توزيع الحليب، ورفعت سعر علبة الحليب المدعمة كليا وجزئياً، فتجاوزت 30%. ستنعكس هذه القرارات على أسعار علب حليب الأطفال غير المدعمة، في ظل عدم وجود تسعيرة إجبارية لهذه السلعة التي يتجاوز سعر العلبة منها 70 جنيهاً، وستزيد الأزمة أرباح مافيا الاستيراد، لتربح بشكل أكبر.
الأصل في المشكلة أن مصر لا تنتج حليب الأطفال، وتلجأ إلى الاستيراد عن طريق وسطاء، على الرغم من امتلاكها شركات أدوية. وتأسيساً على هذه الحالة، شابت عملية توفير الحليب عمليات فساد وتربح، سواء في عملية التعاقد أو التوزيع أو الاستيراد. تدخل الجيش، واشترى 30 مليون علبة لتباع في الصيدليات بـ30 جنيهاً، بهدف خلخلة أسعار الحليب، وهي الاستراتيجية نفسها التي طبقت من قبل، حين ارتفعت أسعار السلع الأساسية، وهو حل قد يؤدي إلى تهدئة السوق مؤقتاً، إلا أنه لا يحل المشكلة من جذورها، كما يطرح هذا الحل فكرة التنافس مع القطاع الخاص في الاستيراد، بدلاً من ضبط السوق أو التوجه إلى الإنتاج مباشرة.
يعكس هذا الحل رؤيةً قاصرةً في إدارة الملف الاقتصادي ككل، فتلبية احتياجات المجتمع ليست خاضعة بشكل كلي للعرض والطلب في ظل عدم وجود إنتاج محلي، كما أن أسعار السلع لا بد من أن يربط بالأجور، فمتوسط استهلاك الطفل الرضيع 10 عبوات شهرياً، مما يعني أن الأسرة التي لديها رضيع ستتكلف ما بين 300 إلى 700 جنيه شهرياً في أقل تقدير، وهو مبلغ مرتفع مقارنة بمستوى الأجور.
الملفت أن حجم الدعم الموجه إلى هذا البند (450 مليون جنيه) متواضع بالنسبة إلى بنود أخرى في الموزانة. وعلى الرغم من ذلك، تصر الدولة على تقليصه، كما أن تكلفة إنشاء مصنع لإنتاج حليب الأطفال غير مرتفعة، بل يمكن بناء عدة مصانع بتكلفة لا تتجاوز حجم الدعم الموجه إلى هذا البند سنوياً. إذن، لا تريد الدولة أن تنتج وتفسح المجال لمجموعاتٍ من المستفيدين من هذا الوضع المأزوم، بعكس ما يتم ترويجه. إجمالاً، يمكن القول إن أزمة حليب الأطفال هي أحد انعكاسات التوجهات الاقتصادية، التي تستفيد منها مجموعات المصالح المهيمنة على الاقتصاد والحكم اليوم، وتتضرّر منها الأغلبية.
بدأت انتفاضة الخبز التونسية عام 1984 حراكاً نسويا، تظاهرت فيه عشرات العاملات في ناحية المبروكة ضد قرارات رفع الأسعار، ثم توسعت المظاهرات، لتجبر بورقيبة على إلغاء قراراته، ولا نبالغ إذا قلنا إن صوت النساء الاحتجاجي دلالةٌ على الاحتقان الاجتماعي، وبشارة بأن أمواجه ستمتد. حملت عاملات الغزل والنسيج في نيويورك الخبز والورود عام 1908، وطالبن بظروف عمل إنسانية، كتحديد ساعات العمل والمشاركة السياسية والأجر العادل. بعد مائة عام، في عام (2008)، أشعلت عاملات المحلة انتفاضة شارك فيها مئات الآلاف وأسقطت صورة الديكتاتور حسني مبارك. من هنا، لا يمكن أخذ هذه الواقعة بشكل عابر، فهي حدث ذو دلالاتٍ يمكّننا من فهم حالة المجتمع المصري ومزاجه العام وموقفه من الأزمة الشاملة.
المرأة التي تربي أطفالها، وتعاني في تدبير شؤون منزلها، متأثرة بارتفاع الأسعار، تشعر بالأزمة الاقتصادية بشكل أعمق. المطالبات بتوفير حليب الأطفال يتشاركن المعاناة وبؤس العيش فيحتججن. إنهن عينة من الشعب المصري الذي يعاني من سياسات السلطة. المحتجات لسن نساء السلطة اللواتي يطالبن الشعب بتحمل التقشف وغلاء الأسعار، وهن يطللن من شاشات التلفاز، ثم يرجعن إلى أحيائهن الغنية المعزولة. يمتد الوطن، بالنسبة إلى أغلب الأمهات، من حدود المنزل وهموم الأطفال ويتصل بأحلامهن بوطن عادل آمن يحفظ كرامة مواطنيه، ولا يذلهم من أجل علبة حليب مدعمة.
منذ عشر سنوات، وصدى أصوات نساء مصنع سيد للأدوية يتردّد في الذاكرة. المصنع الضخم الذي يلبي جزءاً من احتياجات السوق، وخصوصاً أدوية الأطفال، يتعرض لمشكلات عديدة، مثل عدم تطوير إمكانياته، وتعطيل قدراته الإنتاجية، ناهيك عن الظلم الواقع على العاملين فيه، ومعظمهم من النساء. في أثناء مشاركتي ببحث عن "النساء وسوق العمل"، حكت إحدى العاملات كيف تبدأ يومها من حلوان (جنوب القاهرة) إلى المصنع في منطقة الهرم، شمال الجيزة، تقطع ما يزيد عن أربعين كيلومتراً متنقلة بين ثلاث من وسائل المواصلات. أما زميلتها الكيميائية، فحكت عن خروج والدها على المعاش المبكر واستيلاء أحد رجال الأعمال على المصنع، الذي يعمل فيه، بثمن بخس، وتخشى الكيميائية أن يصبح مصيرها كمصير والدها. لم تُخفِ قلقها متنقلة بين الهم الشخصي والهم العام الذي يرصد إهدار موارد الوطن من مصانع هي عماد تقدم أي مجتمع. وفي مقابلة مع أحد المسؤولين في المصنع، أكد أن توفير الأدوية مسألة أمن قومي، وأنهم تلقوا تدريبات مكثفة في هذا الشأن، لمواجهة أية أزمة، خصوصاً وأن بعض الأدوية لا يمكن الاستغناء عنه، أو الاعتماد على الاستيراد خياراً بديلاً عن التصنيع.
أعلنت وزارة الصحة المصرية، في أبريل/ نيسان الماضي، أن مخزون حليب الأطفال يكفي خمسة أشهر، وأن الحكومة استبدلت الاستيراد بالأمر المباشر إلى مناقصة لاستيراد الحليب، بينما فوجئت الأمهات بإعادة هيكلة نظام صرف الحليب، ليقلص الحالات المستحقة للدعم، كما خفضت كمية الحليب المدعمة من 23 مليون علبة إلى 18 مليون علبة سنوياً. ارتبط القرار بتوجهات الحكومة لتقليص موازنة (وخدمات) الصحة المنخفضة أساسا، كما تم تقليص مراكز توزيع الحليب، ورفعت سعر علبة الحليب المدعمة كليا وجزئياً، فتجاوزت 30%. ستنعكس هذه القرارات على أسعار علب حليب الأطفال غير المدعمة، في ظل عدم وجود تسعيرة إجبارية لهذه السلعة التي يتجاوز سعر العلبة منها 70 جنيهاً، وستزيد الأزمة أرباح مافيا الاستيراد، لتربح بشكل أكبر.
الأصل في المشكلة أن مصر لا تنتج حليب الأطفال، وتلجأ إلى الاستيراد عن طريق وسطاء، على الرغم من امتلاكها شركات أدوية. وتأسيساً على هذه الحالة، شابت عملية توفير الحليب عمليات فساد وتربح، سواء في عملية التعاقد أو التوزيع أو الاستيراد. تدخل الجيش، واشترى 30 مليون علبة لتباع في الصيدليات بـ30 جنيهاً، بهدف خلخلة أسعار الحليب، وهي الاستراتيجية نفسها التي طبقت من قبل، حين ارتفعت أسعار السلع الأساسية، وهو حل قد يؤدي إلى تهدئة السوق مؤقتاً، إلا أنه لا يحل المشكلة من جذورها، كما يطرح هذا الحل فكرة التنافس مع القطاع الخاص في الاستيراد، بدلاً من ضبط السوق أو التوجه إلى الإنتاج مباشرة.
يعكس هذا الحل رؤيةً قاصرةً في إدارة الملف الاقتصادي ككل، فتلبية احتياجات المجتمع ليست خاضعة بشكل كلي للعرض والطلب في ظل عدم وجود إنتاج محلي، كما أن أسعار السلع لا بد من أن يربط بالأجور، فمتوسط استهلاك الطفل الرضيع 10 عبوات شهرياً، مما يعني أن الأسرة التي لديها رضيع ستتكلف ما بين 300 إلى 700 جنيه شهرياً في أقل تقدير، وهو مبلغ مرتفع مقارنة بمستوى الأجور.
الملفت أن حجم الدعم الموجه إلى هذا البند (450 مليون جنيه) متواضع بالنسبة إلى بنود أخرى في الموزانة. وعلى الرغم من ذلك، تصر الدولة على تقليصه، كما أن تكلفة إنشاء مصنع لإنتاج حليب الأطفال غير مرتفعة، بل يمكن بناء عدة مصانع بتكلفة لا تتجاوز حجم الدعم الموجه إلى هذا البند سنوياً. إذن، لا تريد الدولة أن تنتج وتفسح المجال لمجموعاتٍ من المستفيدين من هذا الوضع المأزوم، بعكس ما يتم ترويجه. إجمالاً، يمكن القول إن أزمة حليب الأطفال هي أحد انعكاسات التوجهات الاقتصادية، التي تستفيد منها مجموعات المصالح المهيمنة على الاقتصاد والحكم اليوم، وتتضرّر منها الأغلبية.