أسئلة بشأن وعد بلفور

07 نوفمبر 2014

فلسطيني في مواجهة جيش الاحتلال في ذكرى النكبة (15مايو/2002/Getty)

+ الخط -

رسالة، بكلمات قليلة، تعهدت بإقامة وطن قومي لهم، كانت كفيلة بأن تربط اليهود بفلسطين، وتحوّل إسرائيل إلى أقوى كيان عنصري مسلح في الشرق العربي، وبمساعدة مباشرة من بريطانيا والقوى الاستعمارية الأخرى. فقد نشأ هذا الكيان بقرار من خارج أرض فلسطين، بدأ بوعد بلفور في الثاني من نوفمبر/ تشرين ثاني 1917، وتجسد واقعًا في إعلان دولة إسرائيل عام 1948.

نستذكر وعد بلفور في كل عام، ذكرى أليمة أسست لضياع فلسطين، وشكلت جريمة بحق الشعب الفلسطيني وأرضه، ومصيره، ومعاناته، فهذا الإعلان، الوعد، أسبغ صفة الشعب على اليهود، على الرغم من أنهم ينتمون إلى سلالات بشرية شتى، ولا يملكون وحدة اللغة والثقافة، ولا القيم وأنماط السلوك نفسها، وأن جامعهم الوحيد هو الانتماء الديني، متناقضًا في ذلك، تمام التناقض، مع الشروط المتوجب توفرها في الجماعة البشرية، حتى يجوز اعتبارها شعبًا، حسب ما حددها الفكر السياسي الأوروبي، منذ قيام الدولة الحديثة.

ويشكل تصريح بلفور وثيقة، تعتبر من أفدح وثائق الاستعمار الاستيطاني الكولونيالي في التاريخ المعاصر، وهنا لا بد من الاشارة إلى أنه تم إصدار هذا التصريح في لندن، نتيجة مفاوضاتٍ، أعطت بموجبها بريطانيا، التي لا تملك فلسطين، إلى الحركة الصهيونية، التي لا تملك الحق في فلسطين، بتجاهل تام لواقع شعبها التاريخي والقومي، ومن دون استشارته، أو أي اعتبار لحقه في تقرير مصيره. وناقض هذا التصريح كل الوعود والعهود التي قطعتها بريطانيا على نفسها للعرب بالاستقلال متجاهلًا وجود شعب عربي في فلسطين، حيث أشار الإعلان فقط إلى ما أسماها "الطوائف غير اليهودية"، جاعلًا الأقليّة اليهودية أساس السكان في فلسطين، على الرغم من أن سكان فلسطين كانوا يشكلون، وقت صدور التصريح، نحو 95% من العرب (مسلمين ومسيحيين)، ونحو 4% من اليهود (كانوا يملكون 2% من الأرض وقتها) و1% من الجاليات الأخرى. ولم يكن مُصدّر الوعد يجهل هذه الحقيقة!

ولم يكن مصدّر الوعد، أيضًا، يجهل حقيقة أن الفلسطينيين العرب لم يكونوا، يومًا، أجانب مستعمرين في فلسطين واليهود شعبها وسكانها. فلم يجتمع العرب واليهود، يومًا، في فلسطين كشعبين مختلفين، أو كدينين متنازعين قبل المؤامرة الصهيونية الاستعمارية، الممتدة في فترة  الأعوام 1917-1948. كانت فلسطين وقتها بلدًا عربيًا، يقطنه شعب عربي أصيل، وتعيش فيه أقلية ضئيلة تدين بالديانة اليهودية. وحكمته بريطانيا، كدولة منتدبة من عصبة الأمم، عام 1922. فانتهى، في ظل انتدابها، إلى دولة يهودية عام 1948، وانتهى شعبه العربي إلى مجموعات من اللاجئين المشردين في بقاع الأرض.

والآن، وبعد مرور 97 عامًا على الوعد، الذي أعطى من لا يملك لمن لا يستحق، نتساءل: من يقبل أن تحتل بلاده، ويُطرد شعبه، ويشرّد ليحل مكانَه شعبٌ آخر؟ هل تقبل أميركا أن يطرد سكان كاليفورنيا من ولايتهم، ليحل محلهم اليهود "المعذبون" من ألمانيا؟ هل تقبل الصين ذات المساحة القارية الشاسعة أن تخلي مقاطعة فوكين من شعبها، ليحل مكانه شعب آخر، كان مشردًا، ومن شعوب أوروبا وآسيا مثلا؟ هل تقبل بريطانيا "العظمى" أن تخلي مقاطعة ويلز، أو لندن، من سكانها الإنجليز ليحل محلهم شعبٌ غريب؟!

لا نعتقد أن شعبًا في الدنيا، مهما سمت مثله العليا، يمكن أن يقبل بهذا الوضع الشاذ، اللهم إلا إذا عرف الاستعمار، ومبدأ القوة المسلحة في حل القضايا وتشريع الغزاة والطغاة!

لم تكن كارثة فلسطين يومًا إلا قضية وطن احتُل واغتصبه غازٍ غريب، وقضية شعب تآزرت ضده قوى الاستعمار والصهيونية، فطردته من بلاده، وأحلّت مكانه خليطاً عجيباً من البشر من كل مكان. أقول غريباً عنه وعن فلسطين، لا تربطه بهما إلا رابطة خرافية مهووسة، خلقتها الصهيونية المستغلة، وغذّاها واستغلها الاستعمار، في سبيل تحقيق خططه ومشاريعه وأهدافه.

كانت قضية فلسطين، ولا تزال، قضية شعب أكره بالقوة على النزوح واللجوء عن وطنه، وقضية غزاة أجانب، احتلوا مكانه، واغتصبوا ممتلكاته، وتركوه مشردًا في الأرض، من دون وطن. تمامًا كما لو أن الجيش الأميركي، أو البريطاني، اعتبر الأجزاء، التي احتلها من ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أرضًا أميركية او بريطانية، ورفض مغادرتها، وعمد إلى طرد سكانها الأصليين وأصحاب الحق فيها بالقوة، وأسكن مكانهم مجموعات من شعوب مختلفة غريبة عن تلك الأرض!

لكن، ليس وعد بلفور دائماً المشجب الذي نعلق عليه ضياع فلسطين. نعم، إسرائيل أتت، أيضاً، من تراكم أخطائنا، وتبلورت من تخلفنا، وانزرعت في داخلنا من تشرذمنا، وعندما قررنا هزيمتها بالسلام، استبدلنا ثوارنا بحفنة لصوص نحاربها بهم! هل منّا من يقرأ التاريخ بوعي؟

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.