30 أكتوبر 2024
أسئلة جاك سميث العراقية الشرسة
لم يطرق سمعي اسم جاك سميث، قبل أن أقرأ مقالاته التي هاجم فيها الإدارات الأميركية المتعاقبة، لمواقفها المعادية للعراق التي وصلت إلى قمتها في غزوه واحتلاله. كان ذلك قبل أكثر من عقد، حفزتني مقالاته للاتصال به، والحصول على موافقته على ترجمتها ونشرها في الصحافة العربية. وفتحت لي المجال للتعرّف إليه، ناشطا يساريا أميركيا، وكاتبا في صحف ودوريات عديدة، مناهضة للسياسات الأميركية، مدافعا عن حقوق الشعوب وخياراتها. سرعان ما نشأت بيني وبينه علاقة طيبة، وحوار دوري عبر "النت"، وكنت آمل أن تتحقق فرصة للقاء مباشر بيننا، لكن الفرصة لم تجيء. وقد فوجئت أخيرا، وأنا بصدد الاتصال به بمناسبة ذكرى غزو العراق بخبر رحيله قبل شهور.
كان جاك سميث يؤمن بأن الشعار غير كاف وحده، لكي يدفع الناشط السياسي إلى الدفاع عن قضيةٍ ما، وإقناع الجمهور بعدالتها. لذلك، كان يقحم في حواراته معي أسئلة شرسة، يحاول الوصول من خلالها إلى وقائع تعينه على دعم حججه في مواجهة داعمي الحرب ضد العراق. كان يرى أن أميركا خاضت ثلاث حروب في مواجهة العراق، لم يستخلص العراقيون دروسها. الأولى "عاصفة الصحراء" في مطلع التسعينيات التي قتلت أكثر من مئتي ألف عراقي. تبجح رئيس عصبة جنرالات البنتاغون في حينها، كولن باول، بأنه لم يهتم بالرقم، وعبّر وزير الدفاع، ديك تشيني عن شماتته بأنه "إذا كان ثمة من يتملكه الفضول لمعرفة ما حصل، نقول ببساطة إن عددا كبيرا من العراقيين قد قتلوا".
تمثلت الحرب الثانية في الحصار والمقاطعة الاقتصادية التي فرضت بقرار أميركي – دولي، وفتكت بمليون ونصف المليون من العراقيين، ثلثهم من الأطفال. زعمت مندوبة أميركا لدى الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت حينها، بصلافة، إن مقتل هذا العدد من الأطفال يستحقه الهدف الذي من أجله فرض نظام العقوبات.
فتحت حرب أميركا الثالثة ضد العراق عليه أبواب جهنم، فتكت بنحو مليون من مواطنيه، وأسقطت نظامه الوطني، ووضعته تحت الاحتلال المباشر، ورهنت ثرواته لصالحها، وأعادته، كما توعدت، إلى عصر ما قبل الصناعة، وقد جر فقدانه دوره المركزي الفاعل إلى سلسلة من الانهيارات أوجدت أوضاعا صعبة في المنطقة، ما تزال شعوبها تعاني من آثارها.
على خلفية هذه الحروب، عبر لي جاك سميث، في أحد حواراتنا، عن قناعته في أن العراقيين كانوا غائبين عما يجري في دوائر البنتاغون. روي لي طرفا من الحكاية، ففي أواخر ثمانينيات القرن الراحل، كان العسكر الأميركيون قد تعافوا من الآثار النفسية التي خلفتها لديهم هزيمتهم في فيتنام، وقد عملت عصبة الجنرالات على إقرار عقيدةٍ جديدةٍ لحروب أميركا المقبلة، تعيد إليها الهيبة والتفوق، تعتمد على استخدام القوة المفرطة لتدمير البنية التحتية، والمراكز المدنية للعدو، مع تفادي القتال الأرضي خصوصا في المدن، واستخدام جنود محترفين، وجعل الحرب قصيرة جدا، وإبعاد رجال الإعلام عن الجبهات، باستثناء من يعتمدهم البنتاغون، وتقليل أرقام الخسائر في مقابل زيادة أرقام خسائر العدو، وتجميع حلفاء لإحداث شعور عالمي بأخلاقية الحرب وجدواها. ومن سوء حظ العراقيين، يقول سميث، أن البنتاغون قرّر أن يبدأ تطبيق عقيدته العسكرية الجديدة التي أطلق عليها "عقيدة كولن باول" في حروبه ضد بلادهم.
عند هذه النقطة، كان سميث يفجر في وجهي أسئلته الشرسة: "كيف غفلتم عن هذا كله، ولم تُحسنوا قراءة ما يدور من حولكم؟ كيف وضع قادتكم خططهم على أساس محاصرة الجنود الأميركيين داخل المدن، وكأنهم سيأتونكم راجلين؟ وكيف داخلكم الوهم في أن قرويا في الصحراء يستطيع إسقاط طائرة مقاتلة بالحجارة، وأن القار الأسود الذي أحطتم به مدنكم سوف يمنع طياري العدو من الرؤية، أما كان عليكم اعتماد استراتيجية تكفل رد الخطر، أو تقلل حجم الخسائر، أو تعمل على إطالة أمد الحرب، فربما تنفع ضغوط دولية لوقفها، لماذا لم تستطيعوا إدارة الأزمة على النحو الذي يحفظ لكم دولتكم، ويحمي شعبكم؟ هل تعمدتم هدم المعبد على ساكنيه؟"
أدرك أن ثمّة أسئلة أخرى شرسة وحادة غير التي أثارها سميث، وأن ثمّة أشجانا ومفارقات اختزنتها ذاكرتنا، وقد تكون الذكرى الخامسة عشرة لغرس السكين الأميركية في الجسد العراقي مناسبةً لفتح كوةٍ، ولو صغيرة، للتحاور حولها بما يفيد في النظر بعيونٍ مفتوحةٍ، لقراءة ما يدور من حولنا، وما يحيط بنا من مشكلات.
كان جاك سميث يؤمن بأن الشعار غير كاف وحده، لكي يدفع الناشط السياسي إلى الدفاع عن قضيةٍ ما، وإقناع الجمهور بعدالتها. لذلك، كان يقحم في حواراته معي أسئلة شرسة، يحاول الوصول من خلالها إلى وقائع تعينه على دعم حججه في مواجهة داعمي الحرب ضد العراق. كان يرى أن أميركا خاضت ثلاث حروب في مواجهة العراق، لم يستخلص العراقيون دروسها. الأولى "عاصفة الصحراء" في مطلع التسعينيات التي قتلت أكثر من مئتي ألف عراقي. تبجح رئيس عصبة جنرالات البنتاغون في حينها، كولن باول، بأنه لم يهتم بالرقم، وعبّر وزير الدفاع، ديك تشيني عن شماتته بأنه "إذا كان ثمة من يتملكه الفضول لمعرفة ما حصل، نقول ببساطة إن عددا كبيرا من العراقيين قد قتلوا".
تمثلت الحرب الثانية في الحصار والمقاطعة الاقتصادية التي فرضت بقرار أميركي – دولي، وفتكت بمليون ونصف المليون من العراقيين، ثلثهم من الأطفال. زعمت مندوبة أميركا لدى الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت حينها، بصلافة، إن مقتل هذا العدد من الأطفال يستحقه الهدف الذي من أجله فرض نظام العقوبات.
فتحت حرب أميركا الثالثة ضد العراق عليه أبواب جهنم، فتكت بنحو مليون من مواطنيه، وأسقطت نظامه الوطني، ووضعته تحت الاحتلال المباشر، ورهنت ثرواته لصالحها، وأعادته، كما توعدت، إلى عصر ما قبل الصناعة، وقد جر فقدانه دوره المركزي الفاعل إلى سلسلة من الانهيارات أوجدت أوضاعا صعبة في المنطقة، ما تزال شعوبها تعاني من آثارها.
على خلفية هذه الحروب، عبر لي جاك سميث، في أحد حواراتنا، عن قناعته في أن العراقيين كانوا غائبين عما يجري في دوائر البنتاغون. روي لي طرفا من الحكاية، ففي أواخر ثمانينيات القرن الراحل، كان العسكر الأميركيون قد تعافوا من الآثار النفسية التي خلفتها لديهم هزيمتهم في فيتنام، وقد عملت عصبة الجنرالات على إقرار عقيدةٍ جديدةٍ لحروب أميركا المقبلة، تعيد إليها الهيبة والتفوق، تعتمد على استخدام القوة المفرطة لتدمير البنية التحتية، والمراكز المدنية للعدو، مع تفادي القتال الأرضي خصوصا في المدن، واستخدام جنود محترفين، وجعل الحرب قصيرة جدا، وإبعاد رجال الإعلام عن الجبهات، باستثناء من يعتمدهم البنتاغون، وتقليل أرقام الخسائر في مقابل زيادة أرقام خسائر العدو، وتجميع حلفاء لإحداث شعور عالمي بأخلاقية الحرب وجدواها. ومن سوء حظ العراقيين، يقول سميث، أن البنتاغون قرّر أن يبدأ تطبيق عقيدته العسكرية الجديدة التي أطلق عليها "عقيدة كولن باول" في حروبه ضد بلادهم.
عند هذه النقطة، كان سميث يفجر في وجهي أسئلته الشرسة: "كيف غفلتم عن هذا كله، ولم تُحسنوا قراءة ما يدور من حولكم؟ كيف وضع قادتكم خططهم على أساس محاصرة الجنود الأميركيين داخل المدن، وكأنهم سيأتونكم راجلين؟ وكيف داخلكم الوهم في أن قرويا في الصحراء يستطيع إسقاط طائرة مقاتلة بالحجارة، وأن القار الأسود الذي أحطتم به مدنكم سوف يمنع طياري العدو من الرؤية، أما كان عليكم اعتماد استراتيجية تكفل رد الخطر، أو تقلل حجم الخسائر، أو تعمل على إطالة أمد الحرب، فربما تنفع ضغوط دولية لوقفها، لماذا لم تستطيعوا إدارة الأزمة على النحو الذي يحفظ لكم دولتكم، ويحمي شعبكم؟ هل تعمدتم هدم المعبد على ساكنيه؟"
أدرك أن ثمّة أسئلة أخرى شرسة وحادة غير التي أثارها سميث، وأن ثمّة أشجانا ومفارقات اختزنتها ذاكرتنا، وقد تكون الذكرى الخامسة عشرة لغرس السكين الأميركية في الجسد العراقي مناسبةً لفتح كوةٍ، ولو صغيرة، للتحاور حولها بما يفيد في النظر بعيونٍ مفتوحةٍ، لقراءة ما يدور من حولنا، وما يحيط بنا من مشكلات.