كلمة النهضة، والمعني بها ما تُسمَّى النهضة الأوروبية، تعني في أصلها الفرنسي "الولادة مجدداً"، إلا أن هذه الولادة كما يرى المؤرخ البريطاني الشاب جيري بروتن Jerry Brotton، في آخر كتاب له حمل عنوان "بازار النهضة: من طريق الحرير إلى مايكل أنجلو"، ليست سوى أسطورة، فلا هي أوروبية في الصميم كما يشاع، ولا أسبابها وبواعثها هي مما يقال.
ولخّص ما يعنيه بهذا التعبير في مقالة حملت عنوان "أسطورة النهضة في أوروبا" (لم يصفها حتى بالأوروبية)، رفض فيها الأفكار الرائجة القائلة بنهضة أوروبية عاد فيها الإنسان الأوروبي إلى معرفة نفسه، منطلقاً من حوافز ذاتية داخلية استمدّها من إحياء تراثه الكلاسيكي، وقال إن مثل هذه الفكرة تتجاهل تجاهلاً تامّاً أمراً أساسياً، وهو أن التطوّر المهم في التجارة والعلوم، والصلة بالإمبراطوريات القاصية أيضاً، هي الأسباب الحقيقية لهذا التحوّل الثقافي المُزلزل.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً يكتشف المتابع أن التفكير النقدي في النهضة الأوروبية مجدّداً وإعادة تقييمها، بدأ يتسرّب إلى الدراسات التاريخية مع عدد من الباحثين الجُدد في مختلف القارات، ففي تسعينيات القرن الماضي ظهر كتاب أستاذ علم الدلالات الأرجنتيني والتر مينيولو المعنون "جانب النهضة الأشدّ عتمة" (1995)، وكتاب المؤرخة البريطانية ليزا غورداين (1944- 2015)، شريكة جيري بروتن في اتجاهاته البحثية، المعنون "بضائع دنيوية: تاريخ جديد للنهضة"، وكتاب المفكر المكسيكي الأرجنتيني إنريكي دوسل، أبرز منظري فلسفة التحرّر، تحت عنوان "وجه الحداثة الخفيّ".
هذا التفكير النقدي لم ينطلق من فراغ، بل جاء رداً على ما تراكم في الأدبيات الغربية حول النهضة ومحركاتها الأساسية. على سبيل المثال، ما نجده لدى المؤرخ البريطاني روبرت وايلد الذي يُرجع جذورها إلى الدائرة الثقافية الغربية، وإلى "النصوص والمعارف الكلاسيكية التي ظلّت موجودة في أوروبا القرون الوسطى، ولم تُفقد أبداً"، ولدى المؤرخ تشارلس هاسكنز الذي تحدث عن وجود ثلاث نهضات في قلب العصور الوسطى، النهضة الكارولنجية في عهد شارلمان، والنهضة التي ينسبها إلى الأباطرة الثلاثة الذين يحملون اسم أوتو في القرن العاشر، ثم نهضة القرن الثاني عشر.
وهذه الأخيرة كما يعتقد روبرت وايلد هي التي طبعت بطوابعها النهضة الأوروبية موضوع الحديث، ففيها بدأت الحيوية تدبّ في النصوص الكلاسيكية اللاتينية والفلسفة والعلم اليونانيين، وظهرت أوائل الجامعات.
ويشير هؤلاء إلى الدور الذي لعبته عناصر وعوامل أخرى في ظهور النهضة. فيذكرون هروب العلماء مع كتبهم حين وقعت القسطنطينية في يد العثمانيين (1453) إلى أوروبا، وإعادة الفرنجة، منتحلي اسم "الصليبيين" إبان غزواتهم في المشرق العربي، النصوص اليونانية والرومانية التي فُقدت في أوروبا وحفظتها البلدان الإسلامية، إلى بلدانهم، وصراع العرب (الموريسكيين) مع المسيحيين في إسبانيا الذي أدى أيضاً إلى هروب الكثير من العلماء إلى دويلات المدن الإيطالية.
ولا ينسون اعتبار "الموت الأسود"، أي وباء الطاعون الذي اجتاح البلدان الأوروبية في القرن الرابع عشر، وقتل ما بين 30% و60% من مجموع السكان، في إحداث النهضة لأن هذا الوباء أدّى إلى موت الكثير من الشخصيات البارزة، وتسبّب بحدوث اضطرابات سياسية واجتماعية يعتبرها هؤلاء بداية النهضة.
خلاصة هذا النوع من التفكير، أن النهضة كانت زمناً أوروبياً خالصاً حدثت فيه نقلة من العالم القديم إلى العالم الحديث، وقادت هذه النقلة في ما بعد إلى ما يسمى عصر التنوير، فعصر العقل، فالحداثة وما بعد-الحداثة، وما إلى ذلك.
على جملة هذه التأويلات والمعتقدات النابعة من نزعة المركزية الغربية المعتادة، جاء الرد من الأطروحة الناقدة التي عنونها جيري بروتن باسم "أسطورة النهضة في أوروبا". بدأ أطروحته بالقول: "إن النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، تظل واحدة من أهم الأحداث في تاريخ الثقافة الغربية، ولكنها أيضاً من أكثر الأحداث تعرّضاً لسوء الفهم".
ثم يشير إلى أن مصطلح النهضة ذاته لم يستخدم لأول مرة إلا في أواخر القرن التاسع عشر على يد المؤرخ الفرنسي جول ميشليه في تناوله لموضوعها كظاهرة إيطالية، ثم رسّخ هذا النحو من التفكير المؤرخ السويسري ياكوب بوكهارت في كتابه "حضارة النهضة في إيطاليا" (1860).
كلا المؤرخين اعتقد أن النهضة ظاهرة إيطالية، نشأت في دويلات مدن القرن الخامس عشر التي ازدهرت فيها مواهب فنية لأمثال ليوناردو دافنشي، وبوتشيللي، وأندريا مانتنيا، وبرونيليسكي، وأعلنت منجزات هذه المرحلة الثقافية ولادة القيم اليونانية والرومانية الكلاسيكية مجدّداً، القيم الجمالية والصفاء الأدبي.
وظل هذا "الاختراع"، على حد تعبير جيري بروتن، حتى وقت قريب جداً أسطورة مغوية بالغة القوة، تم في ظلها إهمال الكثير مما هو فعّال وثوري بالفعل في هذه المرحلة الاستثنائية. مشكلة مقاربة ميشليه وبوكهارت كما يقول، أنها تعكس تفكير عالمهما في القرن التاسع عشر، أي أنها عكست وحملت إلى المباحث التاريخية نزعات وسطوة التفكير الإمبراطوري الاستعماري الأوروبي، والتوسّع الصناعي، وتدهور مكانة الكنيسة، والرؤيا الرومانسية لدور الفنان في المجتمع.
حقيقة الأمر أن هذين المؤرخين اللذين ساهما مع غيرهما في تشكيل النظرة التقليدية الشائعة، لم يتعرّفا على الكيفية التي شكّلت فيها التجارة والتمويل المالي والعلم والتبادل مع الثقافات الأخرى، تشكيلاً حاسماً ما اعتقدا أنه ازدهار ثقافي للنهضة الأوروبية. والآن فقط أصبح من الممكن تجميع قطع صورة أكثر تعقيداً وحركية، لما كان دافعاً وراء منجزات هذه المرحلة المهمّة.
ويلاحظ بروتن أنه لم يكن بلا سبب أن الخرائط الأوروبية المبكّرة تظهر ما ندعوه اليوم بالشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، في قلب العالم المعروف آنذاك، أي إلى حيث اتجهت أنظار الأوروبيين بحثاً عن السلع الثمينة والفنون والمدن المزدهرة، وارتحل التجار الإسبان والإيطاليون لشراء الحرير والتوابل والخزف الصيني والسجاد والبضائع "الغريبة" التي ستغيّر صورة البيوت الأوروبية.
أسواق الشرق هذه هي التي علّمت هؤلاء التجار طرقاً جديدة للمتاجرة منذ أوائل القرن الثالث عشر، وفيها اكتسب تاجر من مدينة بيزا شهير باسم فيبوناتشي، صاحب كتاب من أوائل كتب الرياضيات التي علمت أوروبا المناهج العربية في الجمع والطرح والضرب، القدرة على حساب الربح والخسارة باستخدام الأرقام العربية/ الهندية.
وقل مثل ذلك عن تأثير الشرق على فنون وثقافة وذوق أوروبا، وهو ما يظهر في المعمار، ومثاله استفادة مدينة البندقية من علاقتها المكثّفة بالشرق، وظهور هذا التأثير المتزايد على عمائرها، والملحوظ حتى اليوم من قبل أي زائر لهذه المدينة. ومثاله الآخر في اشتراط رعاة الفنون أن يستخدم الفنانون مواد شرقية ثمينة في صور لوحاتهم وفسيفساء جدارياتهم، وحتى في اللوحات الدينية التي تزيّن عادة الجدار خلف طاولة التقدمات الكنسية.
ويتضح من دراسة مظاهر الغنى والرفاهية في أزياء الأشخاص وأثاث البيوت في اللوحات الفنية أنها كانت نتيجة مباشرة للمبادلات التجارية مع الأسواق البعيدة، وخاصة التي تقع إلى الشرق. ووصلت العلاقات الفنية والتجارية حد أن تعرض السلطات العثمانية في إسطنبول على ليوناردو دافنشي إنشاء جسر فوق البوسفور، فيفكر بهذا الجسر ويراسل العثمانيين عارضاً تصوّراته.
بدأت النهضة تكتسب شكلاً عالمياً أوسع مع تطوير فنانين، من أمثال آلبرخت دورر وهانس هالبين، أسلوبيهما الفنيين في شمالي أوروبا. وفتحت الرحلات البحرية الإسبانية والبرتغالية عوالم جديدة وراء الأطلسي وفي الشرق الأقصى. ولم يُخفِ فنان مثل دورر إعجابه وابتهاجه وهو يتعرّف على "العبقرية رفيعة المستوى للبلاد الأجنبية" على حد تعبيره، أو وهو يصوّر في لوحاته الخزفيات الشرقية والببغاوات وخشب الصندل وجوز الهند، أو وحيد القرن الهندي، أو وهو يرتبط بآخر تطورات التجارة والسياسة والعلوم، وهذا هو بالضبط ما منح فن النهضة أصالته وحيويته وتقانته المتميزة.