لم تعد تكتيكات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في "إعادة أمجاد روسيا" تقليدية. الرجل أعلنها صراحة أنه يريد فرض سطوته على العالم، بعناوين قومية روسية وبإرث تاريخي سوفييتي توسعي حيناً، وقيصرية استعمارية أحياناً. يرغب بوتين في تشكيل جدران فصل مع عوالم عدة، يسعى من خلالها لإعادة "الهيبة الروسية"، لكن الطريق يبدو معبّداً بسلسلة طويلة من المخالفات والاعتداءات والاستفزاز وفعل أي شيء لترجمة القوة والسطوة، ذلك أن الكثير من أدوات القوة الكلاسيكية تنقص روسيا، مثل الاقتصاد، فكان لا بد من ابتداع وسائل حرب قذرة بديلة عنوانها العدوانية والاستفزاز والتخريب حيث تعجز الدبلوماسية والتأثير الاقتصادي. في 5 ميادين تتمظهر الحروب الروسية، في القرصنة، والاغتيالات على طريقة الكي جي بي، وزرع رجال أعمال وشركات الطاقة في مختلف دول العالم، والتدخل العسكري المباشر بجيشه النظامي أو بمرتزقة صارت لهم شركات، والهوليغانز في ملاعب كرة القدم.
وإذا كان الروس قادرين على اختراق المنظومات الإلكترونية، بصورة باهرة، خصوصاً أن الأميركيين لم يكتشفوا أدلّة حاسمة بعد على التورّط الروسي بانتخاباتهم، إلا أن الروس تمكنوا من التقدّم خطوة في عالم الاغتيالات "مجهولة الفاعل". وما محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته يوليا، في 4 مارس/ آذار الماضي، في سالزبري البريطانية، سوى محاولة من محاولات روسية. وعلى الرغم من عدم حسم القضاء البريطاني بالاتهام لموسكو في شأن سكريبال، إلا أن التاريخ الدموي للكي جي بي (تم استبداله بجهاز الأمن الفيدرالي) بالنسخة الروسية المتجددة، في عهد بوتين، يظهر في قضايا اغتيال ستيفن موس (2003)، وسيرغي أوشاكوف (2003)، وبول خليبنيكوف (2004)، وسليم خان ييندرباييف (2004)، وآنا بوليتكوفسكايا (2006)، وستيفن كيرتس (2006)، وإيغور بونوماريف (2006)، وألكسندر ليتفينينكو (2006)، ويوري غولوبيف (2007)، ودانيال ماكغروري (2007)، وبدري باتاركاتشيشفلي (2008)، وناتاليا إستميروفا (2009)، وسيرغي ماغنيتسكي (2009)، وبول كاسل (2010)، وغاريث ويليامز (2010)، وروبي كورتيس (2012)، وبوريس بريزوفسكي (2013)، وجوني إيليشاوف (2014)، وسكوت يونغ (2014)، وألكسندر بريبلتشني (2015)، وبوريس نيمتسوف (2015). ولا تعني الأسماء المذكورة من روس وأجانب، سوى تمدّد الكي جي بي الروسي، من روسيا إلى العالم. وبحسب ما تقاطعت عليه مصادر متابعة، فإن اغتيال كل فردٍ من هؤلاء كان آمره واحد... فلاديمير بوتين.
النزاعات الدموية بسبب الغاز في أوروبا، تحوّلت إلى "قاعدة" روسية عبر التدخل العسكري المباشر في ساحات النزاع. ففي جورجيا عام 2008، بدا الروس وكأنهم في معركة "خارجية" هي الأولى من نوعها منذ أفغانستان (1979 ـ 1989). نجحوا في أيام خمسة في إحكام القبضة على جورجيا التي انتظرت الدعم الغربي والأطلسي عبثاً. وبغياب أي ردّ فعل غربي، عاد الروس وحرّكوا الوضع العسكري في أوكرانيا، ويقيناً القول إنه لولا الدعم الروسي لانفصاليي الشرق الأوكراني في حوض دونباس (منطقتي لوغانسك ودونيتسك) من جهة، وضمّهم شبه جزيرة القرم إليهم من جهة أخرى، لكان الخيار الانفصالي سقط مع هروب الرئيس الأوكراني، الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش إلى موسكو عام 2014. وعدا جورجيا وأوكرانيا، عمل بوتين على تأمين حماية النظام السوري، بتدخل عسكري واسع النطاق في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. تدخّل حمى نظام بشار الأسد من السقوط، بعد وصول قوات المعارضة إلى تخوم محافظة اللاذقية وتضييق الضغط عليه في قصر المهاجرين في دمشق. إلا أن لبوتين رأياً آخر، فبتدخلّ عسكري دموي كرّس عاملين: الأول هو عدم أخذه بعين الاعتبار الضحايا المدنيين السوريين، تماماً كما فعل في قضية احتجاز رهائن في مسرح موسكو (2002)، واحتجاز رهائن في مدرسة بسلان (2004)، وفي الحالتين لم يأبه جيش بوتين لحياة المدنيين في عملية تستوجب تحريرهم لا قتلهم. والعامل الثاني في تدخّل بوتين في سورية، تمحور في أنه بات "زعيم الشرق الأوسط الجديد"، وقد أفصح عن ذلك، بإطلاقه 26 صاروخاً من بحر قزوين على مواقع لتنظيم "داعش"، بحسب قوله في سورية، بعد أيام من بدء تدخله في سورية، راسماً خريطة جيوبوليتيكية، تضعه في المرتبة الأولى أمام الإيرانيين والأتراك.
لم يكتفِ بوتين بذلك فحسب، بل عمد إلى تشكيل عصابات كروية تحت اسم "الألتراس الروسي"، أي الهوليغانز الشرسين، الذين يحضرون لمباريات كرة القدم من أجل افتعال المشاكل لا من أجل مشاهدة المباراة. وتفيد تقارير ناتجة عن تحقيقات مع هؤلاء "المشجعين القتلة" بأن بوتين هو الذي يعطي الأوامر المباشرة لتشكيل مثل هؤلاء لـ"إعادة الهيبة الروسية في الملاعب الأوروبية". ومن أفضل من الهوليغانز البريطاني للتصادم معه؟ في لغة الشارع، إن "أردت تكريس قوتك فعليك إزاحة زعيم الشارع ليهابك الجميع". ففي مرسيليا الفرنسية، صيف 2016، وفي مباراة بين منتخبي روسيا وانكلترا، ضمن كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، هاجمت الجماهير الروسية نظيرتها الانكليزية بعدوانية دموية. وبلغة شارعية أيضاً، تفوق الروس على الإنكليز، رغم محاولات الشرطة الفرنسية إنقاذ الموقف، خصوصاً أن العقوبات كادت أن تؤدي إلى طرد المنتخب الروسي من البطولة وعدم السماح له بمواصلة مشواره الكروي. وفي الشهر الماضي، قتل الهوليغانز الروس شرطياً إسبانياً خلال مباراة بين فريقي سبارتاك موسكو الروسي وأتلتيكو بلباو الإسباني في إقليم الباسك الإسباني. هل يهتم بوتين؟ لا، بل ينتظرهم مع "قتلة الملاعب" في كأس العالم الذي تستضيفه روسيا بين 14 يونيو/ حزيران و15 يوليو/ تموز المقبلين.