إنه نائم على الأرض وما من شيء يفصله عن البلاط إلا صحف مكدّسة اتخذها فراشاً له، ثم فجأة تدخل غرفته مياه ممزوجة بالصابون، وما أن يتقلّب حتى يتبلل بتلك المياه ويستيقظ، إنه صلاح السعدني، والمياه قادمة من غرفة مجاورة يجري فيها تغسيل جثة ميت ونساء على الباب غارقات في العويل.. يا له من مشهد! يا لها من بداية!
وما إن يرد خبر رحيل المخرجة حتى يطفو اسم أسماء البكري ويحتل الذاكرة، خارجاً من أول أفلامها الروائية الطويلة "شحاذون ونبلاء" (1991).
المخرجة المصرية (مواليد 1947) التي رحلت عن عالمنا الذي يسوده العنف ويستدعي السخرية كما هو عنوان فيلمها "العنف والسخرية" 2003، قدّمت خيارين في مجابهة التسلّط والاستبداد، إذ إن العنف لا يولّد إلا العنف، أما السخرية فلها أن تكون أداة نبيلة في مجابهته.
كانت البكري مثالاً صارخاً على المخرجة المنغمسة في التقاط المفاصل الإشكالية في البنية الثقافية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، واتصالها بالاقتصادي والسياسي، وهي مأخوذة بتقديم ذلك في سياق اشتغال فني على الصورة. وإن كان لها ألا تكون بعيدة عن "الواقعية المصرية"؛ فإن أفلامها أخذتها إلى مساحات تتشابك برصد جوانب أشدّ تعقيداً وعمقاً وانشغالاً بالشكل، حيث تكون الحارة المصرية معبَراً نحو مآزق ثقافية وفكرية تجعل شخصياتها من لحم ودم، ونموذجية في آن.
ما بين "نبلاء وشحاذون" و"العنف والسخرية" – كلاهما مقتبسين عن عملين للروائي المصري - الفرنسي ألبير قصيري (1913 – 2008) - قدّمت البكري "كونشيرتو درب السعادة" (2000)، وهنا يمكن للطبقة الفقيرة أن تكون على اتصال بالمجتمع المخملي أو النخب الثقافية "الكومبرادورية" وهي تروي علاقة الموظف البسيط في دار الأوبرا، عبد التواب (صلاح السعدني) مع مغنية الأوبرا الفرنسية المصرية، والمتاهة التي يغرق بها وهو ينفتح على عالم مغاير تماماً عن الذي يعيشه.
أنجزت أسماء البكري أكثر من 15 فيلماً وثائقياً قصيراً مثل "قطرة ماء" (1979)، و"دهشة" (1981)، و"بورتريه" (1983)، و"الظاهر وخام" (1983) وغيرها، وعملت مخرجة مساعدة مع مخرجين أبرزهم يوسف شاهين في "عودة الابن الضال" و"وداعاً بونابرت". رحلت ولم تنجز الفيلم الذي صرّحت منذ عامين بأنها في صدد التحضير له، وهو مقتبس عن رواية بهاء طاهر "خالتي صفية والدير".