01 فبراير 2018
أشياء لا ترى
طه يونس (فلسطين)
يعلم القدماء في حارتنا أنّ أم صلاح فقدت عذريتها على أيدي جنود الاحتلال إبان اعتقالها عند إحدى النقاط خلال اجتياح بيروت، وحصار مستشفى عكا، التي كانت متطوعة إغاثية فيها.
الموضوع ليس سراً كبيراً، كانت بعمر الورد، مخطوبة لشاب كان يحبّها جداً، لكنها وعندما عادت إلى بيتها مكسورة الجبين بعد ثلاثة أيام سوداء قضتها في جهة مجهولة، لم تستطع أن تخفي عن أهل بيتها وخطيبها ما حدث، حمل بعدها الشاب الذي كان يحبها مرتينة جده وذهب.. عاد بعد يوم من الغياب جثة هامدة محمّلة على أكتاف الرفاق.
سبعة أشهر أعقبت ذلك اليوم، ولد بعدها أحمد، طفل أسمر نحيل، ذو شعر أحمر كثيف، بعين زرقاء واُخرى شديدة السواد، عاش شهرين قبل أن تصيبه حمى ثقيلة، ليتوفى على أثرها.
كان ذلك قبل ثلاثين عاما أو أكثر، بعدها عاشت أم صلاح سنوات طويلة، كانت خلالها امرأة مع وقف التنفيذ. وعلى الرغم من مصيبتها تلك، ظل العرسان يتوافدون إلى بيتها، كانت ترفض فكرة الزواج من أساسها، لكنها وعندما كبرت، كانت الحرب قد انتهت، وعادت الحياة نسبياً إلى بيروت، فقررّت أن تتناسى حزنها، وتزوجت في الثلاثين من رجل يكبرها بخمس سنوات، زارها الفرح سنتين، قبل أن يقتل زوجها برصاصة طائشة، ويترك لها طفلها الجديد صلاح.
كانت صباحاتها بمجملها بعد ذلك حزينة أيضاً، الساعة الأولى لبكرج القهوة ونيران سجائرها، بعدها تبدأ رحلة يومها في مشوارها إلى سوق صامد الشعبي، تشتري حاجاتها، تقف مع أم حسن وأم خالد، في منتصف الطريق الرئيسي للمخيم، يثرثرن كثيرا عن طبخة اليوم، واعتصام الغد أمام وكالة الاونروا.
تقول أم حسن "بدّي أشوف أبو حسن ناوي يروح الاعتصام أو لا وإذا بقبل بروح"، ترد أم خالد، "أنا ما ليش حد يحكمني ولا زوج ولا ولد، بكرا رايحة هاي قضيتنا"، تقاطعهما أم صلاح "وايش يعني خدمات الأونروا.. ما هي فلسطين وفش حد عربي سائل فيها".
تتجمّع حولهن نساء من المارة، ويكثر الجدل في منتصف الطريق، يسبّ أبو علي وغيره من رجال الحارة وقفتهن تلك، يتعازمن على بيوت بعضهن، تشدّ كلّ واحدة منهن الأخرى إلى منزلها، وغالبا ما يستقر الخيار على منزل أم صلاح.
تقول أنا ليس لدي إلا صلاح؛ يأتيني بخبز الصباح ويملي علي حياتي في المساء بعد أن يعود من عمله، "ما بتعبني إلا الصبح لما أصحي عالشغل"، لكنه في نهاية الأمر يستيقظ ويفتح باب بيته، وهو اليوم لا يتجه يساراً ليخرج من الحارة باتجاه المدرسة كما يفعل أصدقاؤه، إنّما ينتحى يميناً باتجاه الفرن .
في البداية، كانت خطواته باتجاه الفرن رتيبة لا رونق لها، كان قلبه خفيفاً، لكنه بعد أنّ علق بحب ابنة الجيران، أصبح قلبه ثقيلاَ، كلما رَآها ترتدي مريولها المدرسي، وتحمل حقيبتها، تعلّقت عيناه بوجهها، والتصقت قدماه في الأرض.
أصبح أكثر نشاطاً في الصباح، يستيقظ على صوت والدته، يمضي قرابة الساعة بصحبة المرآة، يأخذ نفساً عميقاً ويضغط به معدته بعد أن ينتهي من تسريح شعره، كي يخفي امتلاء بطنه، ثم يجلس عند بوابة البيت وينتظر مرورها، أحياناً تمرّ من جانبه كحلم، وأحياناً أخرى لا يراها فيمضي إلى الفرن مكسور الخاطر، يعمل في نقل ألواح العجين وعقله في مكان آخر، وفؤاده ينتظر الغد، كي يعيد المحاولة.
في المساء، يبوح لوالدته بما يجول في خاطره، فيزور الفرح قلب أم صلاح، تبتسم وتضحك، حتى تتفتّح شرايين وجهها "كبر الولد وبدنا نجوزو"، لكنها سرعان ما تعود إلى حزنها عندما تغدو إلى فراشها، وترتدي ثوب الوحدة.
بأيّة حال، يسأل جيراننا الجدد دوماً عن سبب حزن أم صلاح، وصلابتها المعهودة في الحديث، بَعضُنا يقول لهم إنّ ثمة أشياء لا ترى، وآخرون يقولون .. إنّ ثمة أشياء ثقيلة على اللسان!
الموضوع ليس سراً كبيراً، كانت بعمر الورد، مخطوبة لشاب كان يحبّها جداً، لكنها وعندما عادت إلى بيتها مكسورة الجبين بعد ثلاثة أيام سوداء قضتها في جهة مجهولة، لم تستطع أن تخفي عن أهل بيتها وخطيبها ما حدث، حمل بعدها الشاب الذي كان يحبها مرتينة جده وذهب.. عاد بعد يوم من الغياب جثة هامدة محمّلة على أكتاف الرفاق.
سبعة أشهر أعقبت ذلك اليوم، ولد بعدها أحمد، طفل أسمر نحيل، ذو شعر أحمر كثيف، بعين زرقاء واُخرى شديدة السواد، عاش شهرين قبل أن تصيبه حمى ثقيلة، ليتوفى على أثرها.
كان ذلك قبل ثلاثين عاما أو أكثر، بعدها عاشت أم صلاح سنوات طويلة، كانت خلالها امرأة مع وقف التنفيذ. وعلى الرغم من مصيبتها تلك، ظل العرسان يتوافدون إلى بيتها، كانت ترفض فكرة الزواج من أساسها، لكنها وعندما كبرت، كانت الحرب قد انتهت، وعادت الحياة نسبياً إلى بيروت، فقررّت أن تتناسى حزنها، وتزوجت في الثلاثين من رجل يكبرها بخمس سنوات، زارها الفرح سنتين، قبل أن يقتل زوجها برصاصة طائشة، ويترك لها طفلها الجديد صلاح.
كانت صباحاتها بمجملها بعد ذلك حزينة أيضاً، الساعة الأولى لبكرج القهوة ونيران سجائرها، بعدها تبدأ رحلة يومها في مشوارها إلى سوق صامد الشعبي، تشتري حاجاتها، تقف مع أم حسن وأم خالد، في منتصف الطريق الرئيسي للمخيم، يثرثرن كثيرا عن طبخة اليوم، واعتصام الغد أمام وكالة الاونروا.
تقول أم حسن "بدّي أشوف أبو حسن ناوي يروح الاعتصام أو لا وإذا بقبل بروح"، ترد أم خالد، "أنا ما ليش حد يحكمني ولا زوج ولا ولد، بكرا رايحة هاي قضيتنا"، تقاطعهما أم صلاح "وايش يعني خدمات الأونروا.. ما هي فلسطين وفش حد عربي سائل فيها".
تتجمّع حولهن نساء من المارة، ويكثر الجدل في منتصف الطريق، يسبّ أبو علي وغيره من رجال الحارة وقفتهن تلك، يتعازمن على بيوت بعضهن، تشدّ كلّ واحدة منهن الأخرى إلى منزلها، وغالبا ما يستقر الخيار على منزل أم صلاح.
تقول أنا ليس لدي إلا صلاح؛ يأتيني بخبز الصباح ويملي علي حياتي في المساء بعد أن يعود من عمله، "ما بتعبني إلا الصبح لما أصحي عالشغل"، لكنه في نهاية الأمر يستيقظ ويفتح باب بيته، وهو اليوم لا يتجه يساراً ليخرج من الحارة باتجاه المدرسة كما يفعل أصدقاؤه، إنّما ينتحى يميناً باتجاه الفرن .
في البداية، كانت خطواته باتجاه الفرن رتيبة لا رونق لها، كان قلبه خفيفاً، لكنه بعد أنّ علق بحب ابنة الجيران، أصبح قلبه ثقيلاَ، كلما رَآها ترتدي مريولها المدرسي، وتحمل حقيبتها، تعلّقت عيناه بوجهها، والتصقت قدماه في الأرض.
أصبح أكثر نشاطاً في الصباح، يستيقظ على صوت والدته، يمضي قرابة الساعة بصحبة المرآة، يأخذ نفساً عميقاً ويضغط به معدته بعد أن ينتهي من تسريح شعره، كي يخفي امتلاء بطنه، ثم يجلس عند بوابة البيت وينتظر مرورها، أحياناً تمرّ من جانبه كحلم، وأحياناً أخرى لا يراها فيمضي إلى الفرن مكسور الخاطر، يعمل في نقل ألواح العجين وعقله في مكان آخر، وفؤاده ينتظر الغد، كي يعيد المحاولة.
في المساء، يبوح لوالدته بما يجول في خاطره، فيزور الفرح قلب أم صلاح، تبتسم وتضحك، حتى تتفتّح شرايين وجهها "كبر الولد وبدنا نجوزو"، لكنها سرعان ما تعود إلى حزنها عندما تغدو إلى فراشها، وترتدي ثوب الوحدة.
بأيّة حال، يسأل جيراننا الجدد دوماً عن سبب حزن أم صلاح، وصلابتها المعهودة في الحديث، بَعضُنا يقول لهم إنّ ثمة أشياء لا ترى، وآخرون يقولون .. إنّ ثمة أشياء ثقيلة على اللسان!