ويرى السودان، كما عبّر أكثر من مسؤول حكومي وعلى رأسهم الرئيس عمر البشير، أن البعثة أصبحت عبئاً أمنياً على بلاده أكثر من كونها داعماً أمنياً وتنموياً، مشيراً إلى أن البعثة صارت عاجزة حتى عن حماية نفسها، وطالب في الوقت نفسه ببرنامج واضح لخروج البعثة من الأراضي السودانية.
وانتشر نحو 20 ألف عنصر تابعين للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور في عام 2007، أي بعد نحو خمس سنوات من تدهور الأوضاع الأمنية في عام 2003، ويُكلف هذا الانتشار نحو 1.4 مليار دولار سنوياً.
وخلال السنوات الأربع الماضية، فرضت الحكومة السودانية سيطرتها بنسبة كبيرة على أراضي الإقليم بعد سلسلة من الضربات العسكرية التي وجهتها إلى المجموعات المتمردة في الإقليم، وأشهرها حركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد محمد نور.
ولم تتلقَ الخرطوم طوال السنوات الماضية رداً واضحاً من الأمم المتحدة بشأن إمكانية مغادرة الإقليم نهائياً، باستثناء اجتماعات مباشرة مع المسؤولين الحكوميين لدراسة المقترح، عبر آلية ثلاثية تضم الحكومة والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. لكن مع بداية عام 2016 بدأت البعثة في خطوات عملية بإغلاق مواقعها في عدد من المناطق، وصل عددها بنهاية العام إلى 17 موقعاً كمرحلة أولى لتقليص القوات.
ويوم الإثنين الماضي، توافقت على ما يبدو الرغبات الحكومية مع رغبات الأمم المتحدة نفسها، إذ اقترح كل من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، على مجلس الأمن الدولي خطة جديدة تقضي بتقليص القوات الأممية بنسبة كبيرة.
وتركز الخطة، حسب تقارير صحافية، على الانتقال من مرحلة حفظ السلام إلى مرحلة بناء السلام، على أن يتم الإبقاء فقط على نحو 4 آلاف من القوات في بعض المناطق لتكون جاهزة للتدخل عند الحاجة.
وشدد التقرير، الذي قدمه كل من غوتيريس وفكي، على أنه قد حان الوقت للتخطيط لمستقبل دعم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لدارفور من خلال الربط الوثيق بين خفض عدد عمليات حفظ السلام وبين تراكم بناء السلام والتنمية.
وحدد التقرير أولويات للمرحلة الحالية، ومدتها عامان، تتمثل في حماية المدنيين والدعم الإنساني والتوسط بين الفرقاء السودانيين لحل الأزمة نهائياً في إقليم دارفور، فضلاً عن دعم التنمية في الإقليم، مع رصد حالة حقوق الإنسان. ويضاف إلى ذلك تقليص مواقع البعثة إلى 13 موقعاً في منطقة جبل مره، التي لا تزال تشهد معارك عسكرية بين القوات الحكومية ومتمردين.
واقترح الأمين العام للأمم المتحدة ومفوض السلم بالاتحاد الأفريقي تخفيض عدد القوات من 8358 إلى 4050 من الأفراد العسكريين، وتخفيض عناصر الشرطة من 2500 ضابط إلى 1870.
ووجدت المقترحات الجديدة ترحيباً من الحكومة السودانية التي أكدت في أكثر من مرة التحسن المتزايد للأوضاع الأمنية.
يقول وزير الإعلام في الحكومة السودانية، أحمد بلال عثمان، في حديث مع "العربي الجديد"، إن مقترحات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي تتماشى تماماً مع ما ذهبت إليه الحكومة قبل أربع سنوات، ظلت فيها تطالب بالخروج السلس لقوات "يوناميد"، على أن تكون مساهمة المجتمع الدولي في المرحلة التالية في تعمير ما خربته الحرب. ويشير إلى أن تقليص القوات يُعد خطوة مهمة، ينبغي أن تمضي بخطوات أخرى تنتهي بالخروج النهائي للقوات الأممية من دارفور. كما يؤكد بلال أن الحكومة السودانية قادرة على بسط الأمن في الإقليم وفرض هيبة الدولة، وسيادة حكم القانون، وسد أي فراغ إن وجد بسبب مغادرة "يوناميد".
من جهته، يطالب نائب رئيس بعثة السودان في الأمم المتحدة، مجدي أحمد مفضل، بمزيد من القرارات الأممية للمساعدة في إحلال السلام بدارفور، ومن بين تلك المطالب رفع الحظر العسكري المفروض على الإقليم، وخفض فريق خبراء السلاح.
لكن ما اتفقت عليه الحكومة والأمم المتحدة لا يجد بالمقابل توافقاً من جانب الحركات المتمردة، خصوصاً حركتي تحرير السودان، والعدل والمساواة، إذ وجهتا العام الماضي رسالة إلى مجلس الأمن طالبتا فيها بالإبقاء على قوات "يوناميد" اعتقاداً منهما أن الأوضاع غير مناسبة لانسحاب أو تقليص البعثة. وأشارت الحركتان إلى أن بقاء بعثة "يوناميد" في الإقليم يعتبر الضمان الحاسم لحماية المدنيين في دارفور وتحقيق السلام والعدالة لضحايا العنف.
ووصفت الرسالة مطالبة الخرطوم بانسحاب البعثة بأنها محاولة لإزالة الكيان الدولي الرئيسي الذي يعمل على أرض الواقع لرصد وحل الصراع القائم.
من جهته، يرى الخبير الاستراتيجي اللواء أمين إسماعيل مجذوب، أن بعثة "يوناميد" ظلت خلال السنوات الأخيرة تقدم تقارير نصف سنوية إلى مجلس الأمن الدولي بشأن الوضع الأمني في دافور. ويشير إلى أن غالب تلك التقارير كانت إيجابية بالنسبة للحكومة السودانية، ما قاد إلى التوصل بين الأطراف في 2016 لاتفاق بالخروج التدريجي للقوات، قبل أن تغير البعثة في تقاريرها وتتحدث عن مواضيع سلبية. ولفت إلى أن الزيارات التي قامت بها بعثات من قيادة حفظ السلام في نيويورك وأديس أبابا، أكدت صحة استتباب الأمن في الإقليم.
ووفقاً لمجذوب، فإنه توجد صعوبات قد تواجه عمليات خروج الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، أبرزها طول العقود اللوجستية للبعثة، من إيجار للطائرات وتوفير للمواد الغذائية، وتوفيق أوضاع قوات دول أفريقية مشاركة في البعثة، خصوصاً من الخبراء المدنيين والشرطة. ويرجح أن كل ذلك قد يؤخر الانسحاب الكلي لـ"يوناميد" من دارفور خلال 3 سنوات، بحسب ما هو متفق عليه.
من جهة ثانية، يقول مجذوب إن تحديات حقيقية ستواجه الحكومة السودانية في اللحظة التي تغادر فيها القوات الدولية دارفور، تتمثل في فرض هيبة الدولة، والاستمرار في المحافظة على الحالة الأمنية الحالية. ويضاف إلى ذلك تحدي التفاوض مع الحركات التي لا تزال تقاتل الخرطوم للوصول معها لتفاهمات نهائية، حتى لا تعود المنطقة مرة أخرى لمربع الصراعات والنزاعات. ويطالب بوجود استراتيجية عملية لإعادة تأهيل الأطفال والمرأة في الإقليم، فضلاً عن العمل بقوة وجدية من أجل عودة النازحين بسبب الصراع إلى مناطقهم الأصلية.
من جهته، يقول المحلل السياسي صلاح الدومة، إن الحكومة السودانية بحاجة إلى إرادة سياسية لسدّ أي فراغ تخلفه "يوناميد" من وراء خروجها، مشككاً في امتلاك الحكومة لتلك الإرادة، لأنها افتقدتها، حسب تقديره، لثلاثين سنة ماضية، خصوصاً أنها هي التي تسببت في الأزمة بإطلاق العنان للقوات المتفلتة للعبث في الإقليم، على حد قوله.
ويحذر الدومة الحكومة من مغبة النظر لرغبة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في الخروج التدريجي وكأنه انتصار لها على حساب جهات أخرى، مشيراً إلى أنه مطلوب من الحكومة التعامل بعقلانية ومعالجة مسببات النزاع في الإقليم، بعيداً عن حسابات منتصر ومهزوم. وبالنسبة إليه، فإن التوجه الأممي الأخير لا يعني بأي حال من الأحوال خروجاً نهائياً، بل هو مجرد إعادة انتشار للقوات الدولية وليس فيه كل ما تحلم به الحكومة.
من جهته، يشير محجوب حسون، وهو صحافي محلي في دارفور، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن التوجهات الدولية نحو خفض عدد القوات في الإقليم تجد ترحيباً كبيراً لدى سكان الإقليم، باستثناء نازحين موجودين في المعسكرات يوالي بعضهم الحركات المتمردة.
وينقل حسون أن كثيرين يرون أن التوجهات الجديدة تنمّ عن حكمة وشجاعة وعقلانية، خصوصاً في ظل توفر الأمن الذي بات واضحاً تماماً للمواطنين، الذين أصبحوا يسافرون على سبيل المثال من منطقة لأخرى ليلاً، وهو ما لم يكن متوفراً في سنوات سابقة.
لكن حسون يلفت إلى أن الحكومة ليس بإمكانها الاستغناء كلياً عن مساعدة المجتمع الدولي لسد الفراغ بعد خروج البعثة الدولية، مشيراً إلى أنه لا بد من حصول الحكومة على مساعدات لوجستية لتتمكن من فرض الأمن وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب، فضلاً عن مساعدتها في الضغط على الحركات المتمردة للتوقيع على اتفاقات سلام مع الحكومة.