تسيطر ذكريات الحرب التي عاشها قطاع غزة أخيراً، على حياة مئات الأطباء والمسعفين الذين عملوا خلالها على مدار الساعة.
فوسط ظروف صعبة، وإمكانات محدودة، توافدت أعداد هائلة من المصابين إلى المستشفيات، فاقت قدرة استيعابها. يتذكر الطبيب في مستشفى الشفاء، محمد كسكين تلك الأيام الصعبة التي عاشها خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع، والذي استمر 51 يوماً. لم يعرف طعماً للراحة، ومرت أقسى المشاهد أمامه.
يقول كسكين إنه لم يغادر المستشفى طوال فترة الحرب. وعمل مع زملائه على مدار الساعة تقريباً، دون أن ينالوا سوى بضع ساعات يومياً للنوم. ويضيف لـ"العربي الجديد": "خلال الحرب كنت مضطراً للتعايش مع الواقع. لم أكن أجد وقتاً حتى للتفكير والحزن والبكاء. لكن الآن تعود تلك المشاهد لتمر أمامي يومياً، وأجد نفسي أسيراً لحالة دائمة من الحزن".
أكثر من شهر مرّ على انتهاء الحرب في غزة. بدأت مشاهد الرعب التي عاشها أهالي القطاع بالتلاشي تدريجياً مع انخراطهم في الحياة اليومية. لكن ثمة من لا تزال الحرب بالنسبة إليه، كما لو أنها لم تنه بعد، وعلى رأس هؤلاء الأطباء والممرضون.
يجد كسكين صعوبة في الكشف عن أكثر المشاهد التي آلمته خلال الحرب مع توافد آلاف الشهداء والجرحى للمستشفى. يقول عن تلك الفترة: "لم تكن تمر ساعة واحدة، إلا ويصل المزيد من الضحايا". ويتابع: "أحيانا يتعلق الأمر بأشلاء مقطعة وبقايا شهداء انتشلت من بين الأنقاض، وفي أحيان أخرى يصل مصابون معظمهم في حالة حرجة جداً، وهنا كان علينا السعي للتخفيف من معاناة هؤلاء، لا البكاء عليهم".
بالنسبة إلى المسعف عادل، كانت الأمور أكثر صعوبة. فقد كان معرضاً في أي لحظة للموت، تحت القصف، بحكم عمله الميداني. يقول: "لا أجد في هذه الأيام سوى الدموع، حينما أتذكر اللحظات التي عشتها خلال أيام الحرب".
ويضيف أنّ أكثر ما يؤلمه، هو فقدانه لعدد من زملائه المسعفين خلال الحرب. يروي بتأثر، لـ"العربي الجديد" عن دخوله إلى حي الشجاعية بعد المجزرة المروّعة التي ارتكبها جيش الاحتلال وراح ضحيتها أكثر من 100 شهيد، ومئات المصابين.
يقول عادل: "حينما دخلنا إلى الحي تحت القصف، صعقت من مشاهد الجثث الملقاة في الشوارع والتي كان بعضها غارقاً في برك الدماء وأخرى محترقة تماماً. لكن أكثر ما آلمني هو عدم تمكني وزملائي من نقل جريح كان لا يزال حياً وقد علق تحت أنقاض منزله المدمر، ولم يكن بوسعنا انتشاله رغم أنينه بعد مضي أكثر من يومين وهو على هذه الحالة".
ويتابع: "لم نكن نملك الوقت الكافي لانتشال الجميع، إذ إنّ جيش الاحتلال كان قد رفض دخول سيارات الإسعاف للحي رغم المناشدات عبر الصليب الأحمر. ودخلت أنا وزملائي على عاتقنا الشخصي، قبل أن نعود ببعض المصابين تحت القصف تاركين خلفنا العديد من الحالات".
من جهته، لا يتردد مدير قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى الشفاء، الطبيب أيمن السحباني، في وصف أطباء غزة ومسعفيها الذين عملوا في أوقات الحرب بالأبطال. ويروي قصة مؤثرة ما زالت عالقة بذهنه عن تلك الفترة. يقول: "في أحد الأيام الدامية وصل إلى قسم الاستقبال عدد كبير من المصابين، ومن بينهم أب وثلاثة من أطفاله. كانت حالتهم خطرة جداً. لكنّ الأب كان أخطرهم. وعندما هرعت لعلاج أحد الأطفال صرخ الطفل في وجهي، رغم صعوبة حالته، طالباً الاهتمام بوالده بدلاً منه".
يضيف: "استجبت لطلب الابن، لأفاجأ بالأب وقد تحامل على جراحه وتكلم بصعوبة شديدة مردداً: أولادي. أولادي، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد لحظات فقط. وبعدها بدقائق استشهدت طفلته التي لا يزيد عمرها عن 5 سنوات، بينما ما زال طفلاه الآخران في المستشفى حتى اليوم".