تغيب الإحصاءات الدقيقة حول عدد الجرحى ضحايا الحرب في سورية، لتشير منظمات طبيّة إلى نحو مليون ونصف مليون مصاب. كثيرون من هؤلاء يعانون من إعاقة دائمة، لا سيّما وقد بُترت أطرافهم.
ستّ سنوات من الحرب في سورية خلّفت مئات آلاف المصابين الذين تلقّوا إسعافات في مستشفيات ونقاط طبية متواضعة، ليخرجوا منها مبتوري الأطراف. حياة هؤلاء لم تنتهِ، إلا أنّها تحوّلت إلى كابوس كبير لهم ولذويهم. على الرغم من سواد المشهد، إلا أنّ صناعة الأطراف راحت تزدهر في تلك المناطق، لتمنح أملاً للآلاف وتعين كثيرين على متابعة حياة كانت تبدو لهم شبه مستحيلة.
يلجأ عشرات من مبتوري الأطراف في الشمال السوري إلى مركز "الخطوات السعيدة" في مخيّم باب السلامة على الحدود السورية التركية. وهذا المركز الوحيد في منطقة أعزاز السورية، يقدّم منذ نحو ثلاث سنوات أطرافاً صناعية مجانية لعشرات المصابين شهرياً.
في المركز، يعمل اليوم ثمانية فنيين تقريباً، ينتجون نحو 12 طرفاً صناعياً وعشر جبائر شهرياً. ويقول غزال هلال، فني تركيب أطراف بالمركز، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الحاجة إلى الأطراف الصناعية تزداد في سورية، ولدينا مسجّلون على قوائم الانتظار لأربع أشهر مقبلة. أمّا حاجة المركز لتغطية كلّ الحالات، فهي 30 طرفاً و20 جبيرة كلّ شهر. لكنّنا نعمل بحسب قدرتنا". ويشرح هلال أنّ "المريض يصبح جاهزاً لتركيب الطرف بعد عملية البتر بأربعة أشهر، في حال لم يكن يعاني من مشاكل عظمية أو عصبية. في البداية، نأخذ قياساته ونصنّع الطرف الذي يصبح جاهزاً للتركيب خلال أربعة أيام فقط. بعدها، يكون المريض في حاجة إلى تدريب بحسب نوع البتر". وإذ يشير إلى أنّ "المرضى بمعظمهم يكونون في حاجة إلى معالجة فيزيائية قبل التركيب وبعده"، يقول إنّ "في منطقتنا ثلاثة مراكز فيزيائية، يتابع فيها المصاب علاجه حتى يصبح قادراً على استعمال الطرف الجديد".
"الخطوات السعيدة" مركز أنشِئ كغيره من المراكز، نظراً إلى الحاجة الشديدة إليه. يخبر هلال الذي كان مدرّب رياضة "كيك بوكسينغ"، أنّه "في عام 2012، مع تزايد حالات البتر والإعاقات الجسدية، أنشأناه. ورحنا نصنّع محلياً الأطراف البديلة ونركّبها في مدينة تل رفعت بإمكانيات محدودة". يضيف أنّه في عام 2014، حصل المركز على دعم من أحد الخيّرين، فعمل على تطوير صناعته والخدمات التي يقدّمها، "وصرنا نؤمّن المواد اللازمة للصناعة من تركيا. أمّا فريق العمل فقد تدرّب على أيدي خبراء في هذا المجال، وهو ما جعل صناعتنا تتطوّر". ويتابع: "اليوم، تغطي خدماتنا مساحة كبيرة جداً من حلب وريفها وصولاً إلى الحدود العراقية، لكنّنا ما زلنا نأمل بمزيد من فرص التدريب لنقدّم هذه الخدمة إلى أكبر عدد ممكن من محتاجيها الذين تزايدت أعدادهم بصورة كبيرة".
استشهد وبقي الطرف
في سياق متصل، يخبر مدير مركز الأطراف التخصصي في غوطة دمشق، هاشم عبد الله، عن "ذلك الرجل الذي كان يعمل طباخاً. جاء إلينا بعدما بُتر أحد أطرافه إثر إصابة. كان عمره نحو 45 عاماً، وكان قد توقّف عن العمل بسبب إصابته تلك". يضيف عبد الله أنّه "خلال التركيب، أنشأنا علاقة صداقة معه. وبعدما حصل على ذلك الطرف، تغيّرت نفسيّته كلياً وعاد إلى عمله من جديد. لكن، بعد فترة قصيرة، سقط صاروخ بالقرب منه أثناء ذهابه إلى العمل. استشهد، وأعيد الطرف إلينا. حين رأيناه، صُعقنا. كان موقفاً صعباً لكلّ الفريق. أحببناه جميعاً لروحه المرحة، وهو ظلّ يزورنا".
المركز اليوم يصنع الأطراف البديلة ويركّبها لأبناء المنطقة الذين بُتر أحد أطرافهم، منذ نحو سنة ونصف السنة. يُذكر أنّه معتمد إلى جانب مركز آخر نظراً إلى المعايير الطبية التي يركّب ويصنع الأطراف وفقها. إلى هذَين المركزَين، تنشط ورش محلية صغيرة التي تعمل بجهود ذاتية.
تجدر الإشارة إلى أنّ المركز يعتمد كلياً على التبرّعات، ويقدّم الأطراف الصناعية مجاناً لمحتاجيها. ويقول عبد الله: "قمنا بتجارب كثيرة قبل أن نبلغ الخبرة التي نحن عليها اليوم، وقد استفدنا من خبرات آخرين". يضيف أنّهم "في العام الماضي، ركّبنا نحو مائة طرف و15 خلال الشهرَين الأخيرَين. قدرتنا الشهرية القصوى هي 15 طرفاً، علماً أنّنا محكومون بالدعم المالي الذي يصلنا". ويشير إلى أنّ "المصابين الذين يقصدوننا من كلّ الفئات العمرية، معظمهم من الرجال. دورنا هو إجراء عمليات تأهيل وتدريب بدني وفيزيائي". وإذ يقول إنّ "عدد الأشخاص الذين بترت أطراف لهم في الغوطة كبير جداً، قد يقدّر بنحو 1500، وإن كنّا لا نملك إحصاءات دقيقة"، يؤكّد عبد الله أنّه لم يُركّب أكثر من 250 طرفاً في مركزَي تركيب الأطراف في الغوطة".
التهريب ضرورة
ويعتمد المركز بحسب عبد الله على "مواد إمّا مهرّبة من دمشق لعدم توفّر كلّ المستلزمات في الغوطة المحاصرة، وإمّا محليّة الصنع". ويشير إلى أنّه "قبل إنشاء المركز في الغوطة الشرقية، كان الأشخاص الذي خسروا أطرافاً يسعون بأيّ ثمن إلى الخروج من الغوطة إلى الأردن أو لبنان أو تركيا لتركيب طرف صناعي، على الرغم من الصعوبات المالية والخطر".
ويتحدّث عبد الله عن "صعوبات نواجهها أحياناً، لا سيّما عند تركيب أطراف للشيوخ، لأنّ عضلاتهم ليست قوية كفاية للتركيب أو التأهيل. وهو ما يتطلب منّا وقتاً أطول في التعامل معهم وتدريبهم. كذلك، نواجه مشكلات مع الأطفال بسبب خوفهم في البداية. فنعمل على ترغيبهم في الأمر، ونرتّب لقاءات مع أطفال آخرين سبق وركّبوا أطرافاً صناعية. ونريهم كيف صارت حياتهم أفضل وكيف صاروا يذهبون إلى المدرسة". ويتابع أنّ "المرضى يحتاجون في أحيان كثيرة إلى تأهيل نفسي، بالتوازي مع عمليّة التركيب. فنرسلهم إلى طبيب اختصاصيّ في الغوطة، يقدّم لهم النصائح ويساعدهم على تحسين نفسيتهم ويمنحهم الأمل".
ويأسف عبد الله لما يراه "تقصيراً كبيراً. على الرغم من كثرة المحتاجين إلى أطراف بديلة، إلا أنّ قلة فقط تساهم في التبرّع من أجل ذلك. كثر هم الذي ينتظرون طرفاً، لكنّهم لا يلقون اهتماماً. بالنسبة إلى مشروعنا على سبيل المثال، فقد قام على تبرّعات فردية، معظمها من الأصدقاء والمعارف. عرضنا المشروع بهدف توسيعه أمام عدد من الجهات، إلا أن أيّ منها لم يرغب في تمويله".
لكلّ قصته
من جهته، يعمل مياس في أحدى مراكز تركيب الأطراف في ريف إدلب. يقول: "على الرغم من قساوة عملنا، إلا أنّنا نعرف نشعر الفرح الذي يغمر شخصاً فقد الأمل في حياته. كلّ شخص حصل على طرف صناعي، هو قصة تُروى. ونحن نشعر بالفخر لأنّنا نعيد البسمة إلى عشرات ذاقوا أشدّ أنواع الظلم في هذه الدنيا" يضيف: "أكثر ما يفرحني هو رؤية شخص سبق وركّبنا له طرفاً صناعياً، يمشي في الشارع من دون مساعدة أي كان ومن دون العكازات التي لم يكن يتحرّك من دونها".
ويوضح مياس أنّ الهدف الأساسي من عملهم هو "التخفيف من معاناة المصابين ومشقّة السفر عليهم، لا سيّما أنّهم بمعظمهم لا يستطيعون الدخول إلى تركيا. هذه المراكز وفّرت حلاً كبيراً للذين فقدوا أحد أطرافهم في إدلب وريفها، إذ لم يعودوا في حاجة إلى السفر". يضيف أنّه "قبل نحو عامَين، ركب مصابون قوارب الموت لأنّهم فقدوا الأمل".
ويشير مياس إلى أنّ "كثيرين من العاملين في هذا المجال في إدلب، يمتهنون صناعة الأطراف منذ زمن. وقد درّبوا آخرين على العمل بسبب الحاجة إلى كوادر أكثر. إلى ذلك، تعتمد المراكز في ريف إدلب على دعم الجمعيات والتبرّعات، لكنّه يأتي متفاوتاً بين فترة وأخرى". ويشدّد مياس على أنّ "العلاج أو التأهيل النفسي هو ضرورة خلال تركيب الأطراف الصناعية، إلى جانب التأهيل الفيزيائي".
وفي هذا السياق، يقول جمال الأخرس وهو ممرّض سوري يعمل في ريف إدلب، إنّ "عملي جعلني أشهد على حالات الصدمة التي يعيشها جريح ما حين يستفيق ويجد نفسه من دون ساق أو يد أو من دون الاثنين معاً". يضيف أنّ "مصابين كثيرين يتمنّون لو أنّهم ماتوا ولم ينجوا فاقدين طرفاً ما. ثلاثة حاولوا الانتحار حقاً. هي فترة صعبة تلك التي يعيشها كل مصاب بتر أحد أطرافه. هي من أقسى التجارب التي قد يخبرها إنسان".