مجدداً، تبرز أزمة المشردين في السودان بعد الإعلان عن وفاة ثلاثة من أطفال الشوارع المعروفين محلياً بـ"الشماسة". مات الأطفال قبل أيام بجرعة زائدة من مادة السبيرتو أو الإسبرت (الكحول/ الإيثانول الطبي). لم تكن تلك الحادثة الأولى، فقد سبقها وفاة أو تسمم 71 مشرداً عام 2011 لتعاطيهم المادة نفسها. يومها وضعت السلطات في الخرطوم ضوابط للحدّ من وصول المادة إلى المشردين، لكنّ الخطوة سقطت لاحقاً.
يقول الفتى المشرد يعقوب (15 عاماً) إنّهم يحصلون على السبيرتو من الأسواق بشكل طبيعي، ولديهم تجار محددون يتعاملون معهم. يوضح: "عادة نشتريه بالجملة ونقتسمه في ما بيننا لتخفيض الكلفة علينا". يؤكد أنّ كمية بسيطة من المادة التي يضعونها على قطعة قماش ثم يتنشقونها يمكن أن تسهم في "إنعاشهم" لساعات.
وللتغلب على الارتفاع المتصاعد في سعر السبيرتو استحدث يعقوب وزملاؤه طرقاً جديدة. فهم يعانون كثيراً للحصول على المال إما عبر التسول أو السرقة. يقول يعقوب إنّهم لجأوا إلى أفكار تجعلهم يحافظون على السبيرتو مدة طويلة عبر سكب جزء بسيط منها في زجاجة مياه غازية وثقب الغطاء واستنشاقها. فمثل هذه الطريقة تمنع عملية التسرب والتجفيف عبر الهواء مقارنة بالقماش الذي يستهلك كميات كبيرة من المادة.
في هذا الإطار، ألقت الأجهزة الأمنية في الخرطوم القبض على المشتبه به في بيع المادة للضحايا الثلاثة بحسب مدير شرطة ولاية الخرطوم، إبراهيم عثمان، لا سيما أنّ التقرير الطبي حدد أسباب الوفاة بتسمم كحولي لتناول جرعات كبيرة من الإيثانول المركّز. ويؤكد خبراء أنّ الإدمان على الإيثانول من شأنه أن يقود إلى الوفاة نظراً إلى تأثيراتها على الكبد والقلب.
وبحسب تقديرات رسمية صادرة عن الحكومة في ولاية الخرطوم فإنّ عدد المشردين في العاصمة وصل إلى نحو ستة آلاف معظمهم من الأطفال. لا تقديرات رسمية للعدد الكلي في السودان، لكنّ دراسات غير رسمية أعدت عام 2013 أشارت إلى أنّ عددهم هو 24 ألف مشرد.
التشرد هاجس للحكومة والمجتمع على حدّ سواء إذ يربطه كثيرون بالجريمة والمخدرات. ينتشر المشردون في الطرقات العامة والأسواق وبعض الأحياء إما يتسولون، أو يبحثون في القمامة عن الطعام، أو يلجؤون إلى عمليات السرقة المختلفة لا سيما في مواقف المواصلات. أما فئات أخرى فتعمل جزئياً باعة متجولين، ويمضون ساعات النهار وجزءاً من الليل في الطرقات.
يتحدر معظم المشردين من المناطق التي تشهد نزاعات في ولايات دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. آخرون دفعت بهم الظروف الاقتصادية الخانقة إلى الشارع. تعيش البلاد أزمة اقتصادية قادت إلى رفع أسعار السلع أكثر من 300 في المائة. ويؤكد خبراء أنّ ازدياد نسب الفقر يعدّ أحد أسباب التشرد إلى جانب الحرب والنزوح من الريف إلى المدن وتشتت الأسر وارتفاع معدلات الطلاق.
وبحسب المسؤولة في المجلس القومي لرعاية الطفولة (جهاز حكومي) أميرة أزهري، فإنّ أسراً سودانية دفعت بأطفالها إلى دار رعاية الأطفال فاقدي السند، لفشلها في الإنفاق عليهم لا سيما في ما يتصل بالعلاج والرعاية الصحية. وأعلنت الحكومة المحلية في الخرطوم، قبل أيام، عن الشروع في تشييد مدينة اجتماعية لاستيعاب المشردين وفاقدي الأبوين، فضلاً عن الأشخاص ذوي الإعاقة في أطراف المدينة. وأكد حاكم الخرطوم، عبدالرحيم محمد حسين، أنّ المشروع يكلف نحو 71 مليون جنيه (11 مليون دولار أميركي) وفيه تُنشأ مدينة متكاملة ومهيأه بالملاعب الخضراء ومراكز التأهيل والتعليم.
وكان متطوعون قد نشطوا، في الفترة الأخيرة، في تقديم مساعدات إلى المشردين والترتيب لاندماجهم في المجتمع. وأطلقت منظمة "مجددون" الشبابية التطوعية برنامج "الطعام مقابل التعليم". وفيه جمعت كثيراً من المشردين في مدرسة لتمكينهم من التعلم يومياً ساعتين من الثامنة إلى العاشرة صباحاً مع تقديم وجبات غذائية لهم بلغت 35 ألف وجبة على مدار أيام البرنامج.
وأكدت المنظمة أنّ الخطوة قادت إلى استقطاب عدد من المشردين، خصوصاً أنّها لا تقتصر على الدراسة بل تمتد إلى جوانب تأهيلية ونشاطات رياضية. عن ذلك، يقول أحد المشردين لـ"العربي الجديد "، إنه التحق بالمدرسة، منذ شهر ونصف شهر، وهو سعيد جداً بالدراسة والرياضة وبالوجبة الغذائية: "قبل المدرسة، لا أذكر أنّي تناولت وجبة إفطار واحدة من قبل. منذ أصبح الشارع منزلي أواجه مع غيري صعوبات كبيرة في تأمين لقمة واحدة".