لافت للانتباه، في لائحة أفلام السِيَر الحياتية في السينما الأميركية، التنوّع الكبير في طبيعة الأفلام والشخصيات التي تتناولها. هناك السِيَر الآمنة التي تُظهر أبطالها ملائكة، وهذا يغلب على دراما السِيَر في السينما والتلفزيون المصريين.
يُذكر هنا مثلاً "بوهيميان رابسودي" Bohemian Rhapsody لبراين سينغر (2018)، عن سيرة فريدي ميركوري، وشارك الأعضاء الأحياء في فريقه الموسيقي "كوين" Queen في إنتاجه، لذلك جاءت صورتهم فيه مُطَهّرة إلى أبعد حدّ، أو "إيه بيوتيفول مايند" A Beautiful Mind لرون هاورد (2001)، الفائز بـ4 جوائز "أوسكار" عام 2002، منها أفضل فيلم، عن سيرة جون ناش عالم الاقتصاد، أو "لينكولن" Lincoln لستيفن سبيلبيرغ (2012) عن بعض سيرة الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، أو "ذا ثيوري أوف إيفريثينغ" The Theory of Everything لجيمس مارش (2014)، عن حياة العالم ستيفن هوكينغ، وغيرها العشرات كأمثلة لسِيَر تُمَجّد أبطالها على الطريقة المصرية.
#Queen fans get ready to sing loud & proud at our #BohemianRhapsody sing a long! At #AMCTheatres for one week only. Get tix: https://t.co/ANkIsSheIl. pic.twitter.com/wu7CXg0uUw
— AMC Theatres (@AMCTheatres) January 10, 2019
لكنّ المثير فعلاً هو نوع آخر من السِيَر، لا يشترط "تعظيم" الشخصية وتأثيرها في التاريخ لتناولها، بل تؤخذ مَدخلاً إلى كلامٍ عن أشياءٍ أخرى أكبر. مثلاً: أفلام عدّة لمارتن سكورسيزي تنتمي إلى السِيَر، لكنه يفضّل شخصياتٍ فاشلة في تحقيق مساعيها، أو أنّ مساعيها شريرة أصلاً. من خلال ذلك، يحاول فَهم سلوكياتها واضطراباتها من ناحية، ويتناول مُقتطفات من التاريخ الأميركي لمحاولة فهم نيويورك التي يعيش فيها، من ناحية ثانية. "رايجينغ بول" Raging Bull المُنجز عام 1980، عن جايك لاموتا، بطل العالم في الملاكمة الذي ينتهي الحال به سريعاً كنادل في حانة، أو هنري هيل، رجل العصابات النيويوركي الذي روى حكايته في "غودفيلّاز" Goodfellas عام 1990، متتبّعاً معه وعبره تاريخاً سرياً لأميركا، وهذا كرّره بصورة أخرى في آخر أعماله، "الأيرلنديّ" The Irishman في 2019، عن سيرة رجل المافيا فرانك شيران.
The Irishman took over Little Italy in Manhattan and everyone had only one question: Where is Hoffa? pic.twitter.com/XFhDn7yqZ1
— The Irishman (@TheIrishmanFilm) November 30, 2019
شكلٌ آخر من أفلام السِيَر يحتفي بأشخاصٍ يعتبرهم العالم "فاشلين"، لكنْ صانع العمل يراهم من منظور الشغف: "إد وود" Ed Wood عام 1994 لتيم بورتون مع جوني ديب، عن المخرج الملقّب بـ"أسوأ مخرج في تاريخ هوليوود"، بينما صنع بورتون عنه فيلماً عاطفياً ومؤثّراً، و"فنان الكوارث" The Disaster Artist عام 2017 لجيمس فرانكو مخرجاً وممثلاً، عن رحلة صناعة فيلم "الغرفة" The Room في 2003 لتومي ويزو الذي يعتبره البعض أسوأ استخدام للصُوَر المتحرّكة في التاريخ، لكن فرانكو أنجز فيلماً كوميدياً رقيقاً عن حبّ ويزو للسينما، جاعلاً من فشله حكاية مُلهمة. هناك أيضاً كلاسيكية "أماديوس" Amadeus في 1984 لميلوش فورمان الذي يحمل اسم الموسيقار أماديوس موزارت، لكنّه في الحقيقة حكاية عن أنتونيو سالييري، الموسيقيّ الآخر في الزمن نفسه، وعن عشقه للموسيقى وغيرته المميتة من موزارت، وفشله المؤلم في ألا يتذكّره أحد.
Critics are calling #TheDisasterArtist "pure genius" and "full of heart" and many other nice things that don't fit in video. pic.twitter.com/F9uFqoD7wl
— The Disaster Artist (@DisasterArtist) December 20, 2017
شكلٌ ثالث ينتقد صنّاعه الشخصيات التي يحكون عنها، رغم تأثيرها الضخم. أهم تلك الأفلام وأشهرها "الشبكة الاجتماعية" The Social Network عام 2010 لديفيد فينشر، عن مارك زوكربيرغ وتأسيسه "فيسبوك". إنجاز الفيلم في مرحلة ذروة نجاح زوكربيرغ مُثير للجدل، لإظهاره كشخصية غير اجتماعية، ممتلئة بالفجوات والمشاكل والوحدة. أو "ستيف جوبز" Steve Jobs في 2015 لداني بويل الذي كتبه آرون سوركين، كاتب "الشبكة الاجتماعية" أيضاً، متناولاً هنا سيرة جوبز، مؤسّس شركة "آبل"، وكيف أنّ حياته وعلاقاته العملية لا تشبه أبداً صورته الأيقونية.
إلى ذلك، هناك أفلام سياسية عدّة تتناول بهجاءٍ بالغ شخصيات تاريخية: "سيكريت آونور" Secret Honor لروبرت ألتمان (1984) و"نيكسون" Nixon في 1995 لأوليفر ستون، و"فروست/ نيكسون" Frost/Nixon في 2008 لرون هاورد، كلّها تحمل نظرات نقدية مختلفة إزاء الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وفضيحة "ووترغايت".
هناك "دبليو" W. في 2008 لستون أيضاً، و"فايس" Vice في 2018 لآدم ماكاي، وفيهما نظرة ساخرة وشديدة الحدّة عن شخصيتين مؤثّرتين في التاريخ الأميركي الحديث، لا تزالان على قيد الحياة: جورج بوش الابن وديك تشيني، نائبه، بالإضافة إلى دونالد رامسفيلد وكولِن باول، وزيري الدفاع والخارجية في حقبة بوش الابن. كل تلك الأفلام والاتجاهات والأشكال المختلفة للسِيَر الحياتية تجعل الأمر أرحب من التعامل الأيقوني والملائكي والاحتفائي، بل تجعل الأمور أعقد وأكثر تداخلاً، وتخلق فهماً أوسع للسياسة والتاريخ والبشر.