أفيون الحقيقة

19 ابريل 2016

تشرشل: الحقيقة هي الشأن المحسوم من نفسه

+ الخط -
الكل يبحث عن الحقيقة. الكل ينشد الحقيقة. الكل ينتمي إلى الحقيقة، وينافح من أجلها، نظرياً وعملياً. وعندما يصل إليها، لا يجد أنه فعل شيئاً، بل يجد أن الحقيقة في مكان آخر.
تتناقض الرؤى إلى الحقيقة إذاً وتتباين، بحسب وجهة الناظر إليها، أو بحسب زجّها في قوالب استدلالات هذا الطرف أو ذاك. في المقابل، لن نستطيع أن نفترض أن الحقيقة مسألة غير موجودة أيضاً، ولو على سبيل عائلة الظواهر الأخلاقية، أو على سبيل أنها البوصلة التي تمكّن الإنسان من السير بخطىً واثقة لتجاوز ذاته وواقعه في استمرار. لكن، ما هو جليٌّ وواضح أن المرء لا يستطيع أن يعرف الحقيقة معرفة نهائية، فما قد يكون حقيقياً اليوم قد يكون غير حقيقي في الغد. إنها مسألة تجريبية، إذاً، تُعاش من داخل ومن خارج، وبدءاً من قواعد تغيّر الذات وتغيّر المجتمع؛ وهي مثل الحرية، تكاملها ضمان أساسي من ضمان تحقّقها. وعليه، فإن العملية العقلية العليا تقدّس انتظار لحظة الحقيقة الخاطفة والقارّة في آن.. ودائماً الحقيقة تُنتزع من براثن الحقيقة نفسها.
قيل إن البحث عن الحقيقة هو سبب وجود المدرسة والجامعة، وبشكل أوسع، كل نشاط فكري. ومن التبريرات السياسية المحبّبة للحريات المدنيّة في الولايات المتحدة الأميركية أن الحقيقة لا يمكن أن تُعرف إلا نتيجة التفاعل الحرّ الذي يحدث في "السوق الحرة للأفكار". على المقلب الآخر، يحاول السياسي أدلجة المجتمع، ليسوّغ ممارساته، باعتبارها وحدها الطريق الناجعة إلى الحقيقة. أما السياسي المعارض فيرى أن قبس الحقيقة هو بالتأكيد إلى جانبه، وهو وحده القادر على فضح مناورات الخصم أمام المجتمع، باعتباره المصدر الحقيقي للتغيير، وصاحب المصلحة الأولى في حدوثه.
صحيح أن البحث عن الحقيقة فضيلة نزيهة، وصحيح أكثر أن "نظرية الحقيقة" تؤثر في التجربة. كما أن التجربة تؤثر في النظرية.. نظريتها، إلا أن بناء "علم الحقيقة" يظل هو نتاج التفاعل بينهما.
هل نقول إن الحقيقة تحوّلت بدورها إلى إيديولوجيا؟.. ربما، فكونها صارت مثلاً أعلى للأطراف المتناقضة جميعاً، تشعّ أمام أنظارهم ليل نهار؛ فلم تعد الحقيقة أيديولوجيا فقط؛ بل صارت أفيوناً، ولعلها الأفيون "الجدّي" الوحيد في العالم الحديث، الذي ينتج نوعاً من التوافق بين العقلانيين والمثاليين.

.. ذات يوم، خاطب وزير الثقافة الفرنسي الأسبق، أندريه مالرو، رئيسه الجنرال ديغول،: "أنت في الحقيقة تختزل قيم فرنسا كلها، الكل يقرّ بذلك، بمن فيهم خصومك في الداخل وأعداؤك في الخارج". سأله ديغول: ما الذي تقصده باختزالي قيم فرنسا؟. أردف مالرو: أي أنك أنت القائد السياسي المبدئي والصريح الذي يواجه شعبه بحقيقة الواقع كما هو، حلواً كان أو مرّاً. بكلمات أخرى، أنت القائد الذي لا يُكذّب على شعبه، ولو كلفه ذلك ثمن انسحابه من السلطة، أو محاكمته غير العادلة على ما يرسم أو يقتنع به. هكذا، الحقيقة عندك هي قيمك، وهي بعض قيم فرنسا العليا. أجابه ديغول: لكنني في السياسة قد اضطر إلى رسم الواقع بشكلٍ منحرف أو غير حقيقي. ردّ مالرو: ولكن، دائماً لأجل الواقع نفسه، لأجل الحقيقة نفسها. قاطعه ديغول: الحقيقة بلى: إنها جسد الخيال، نبنيه ونهدمه ونعاود تركيبه كيفما كان، حتى ولو بالكذب.
من جهة أخرى، يصف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون تشرشل، الحقيقة بالقول: "إنها الشأن المحسوم من نفسه، فينا وعلى أرض الواقع، سيّان. الرعب قد يستاء منها، والجهل قد يسخر منها، والحقد قد يحرّفها، لكنها تبقى موجودة، حتى وإن كانت غائبة تنتظر من يكتشفها". وفي سردٍ آخر له في موضوعة الحقيقة، يذكر تشرشل: "سر الحقيقة ليس فعل ما نحب، بل أن نحب ما نفعل، حتى ولو بالوهم، حتى ولو بالكذب على أنفسنا وعلى الآخرين".
وقد صنع تشرشل (1874 – 1965)، مثل ديغول، لبلاده مجداً حقيقياً ملموساً. حارب النازية الهتلرية بلا هوادة، خصوصاً بعد تولّيه منصب رئاسة الوزراء في 1940؛ حيث ظل يدعو البريطانيين إلى رفض الهزيمة والاستسلام، مهما كان الثمن فادحاً، ما ألهم المقاومة البريطانية فلسفة الصمود والمواجهة الشجاعة والحاسمة، خصوصاً في الأيام الأولى لبدايات الحرب العالمية الثانية. وظلّ الرجل، وهو في عمله، يقاوم النازية بصلابة وشراسة، حتى بات انتصار بريطانيا على ألمانيا الهتلرية أمراً محسوماً قاطعاً. وقد جرت عبارته البسيطة القائلة: "لا تستسلم أبداً.. أبداً.. أبداً.." على ألسنة الأغلب الأعمّ من البريطانيين الذين وصفوه في ما بعد بأنه "رجل الدولة الأول في العالم". كما نُظّم، وبعد عقود طويلة من رحيله، وتحديداً في العام 2002، استفتاء حول شخصه رمزاً سياسي، وُصفت نتائجه بأنه "أعظم بريطاني على مرّ العصور". لكن هذا الزعيم التاريخي، والرمز بالنسبة إلى البريطانيين، جرى له ما جرى لديغول، الرمز والأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، أسقطه البريطانيون في الانتخابات لمصلحة منافسه زعيم حزب العمال البريطانيين كليمانت آتلي، قبيل إعلان الانتصار على ألمانيا الهتلرية بقليل. وتعامل الشعب الفرنسي بجحود، وبلا مبالاة، مع بطله القومي، محرّر فرنسا من النازية الهتلرية، في 1969، حين أجرى ديغول، من موقعه رئيساً، استفتاء حول تطبيق مزيد من اللامركزية في فرنسا. وكان تعهّد، قبل الاستفتاء، بالتنحّي عن السلطة في حال عدم موافقة الأغلبية من الفرنسيين على ذلك. وهذا ما حصل فعلاً في 28 من أبريل/ نيسان 1969، حين أعلن ديغول تنحّيه عن منصبه، بمجرد ما عرف أن الموافقة على تطبيق اللامركزية جاءت نسبتها أقل بقليل جداً من التي كان قد رسمها سلفاً.
واضح هنا، إذاً، من هو الذي "كذّب" وناور على حقائق الأمور، بدواعيها ونتائجها. إنه الشعب بنسبته الأكبر في البلدين الأوروبيين."الخيانة" و"قلة الوفاء" حصلتا بالطبع، من الشعب الذي"يقدّسه" كثيرون عبر التاريخ، أو على الأقل ينحازون إليه، ظالماً أم مظلوماً، وتجاه منْ هذه المرّة؟ تجاه زعيمين أفنيا عمرهما، وغامرا بحياتهما لأجل شعبيهما وبلديهما. ولم تعد تنفع مع هذا الخذلان، في المناسبة، أية حقيقة لتصويباتٍ لاحقة، جاءت على شكل استفتاءات شعبية جديدة، أم من خلال عشرات، بل مئات الكتب التي تُشيد بصنيعهما وبتاريخهما، وصدرت، ليس في بريطانيا وفرنسا فقط، وإنما في بلدان كثيرة.
هكذا، إذن، يأتي استخدام ذريعة "الحقيقة"، أو خداع الذات والآخر معاً، من الشعوب أيضاً؛ وكم هي أوخم وأدهى وأشدّ مرارة هنا، حين تجيء ذريعة هذه "الحقيقة" من الشعوب، لا من الحكّام الأفراد.





A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.