مشهد 1
كل صباح تخرج الشابة أمنية إلى الشارع، وكل ما يشغل بالها هو كيف تملأ إناء السكّر الفارغ منذ أيّام؛ تستحضر كل الأدعية التي تتذكّرها، وتردّدها أكثر من مرّة؛ فهي منذ أيّام تخرج للبحث عن "كيلو" من السكّر بدون جدوى، تمرّ في طريقها للعمل على أكثر من جمعية استهلاكية ومراكز تسوّق، تجد فيها كل أنواع السلع الغذائية المحلّية منها والمستوردة عدا السكر؛ وهي تسمع كلمة "مفيش" في كل مرّة تطرح هذا السؤال متأرجحًا بين النطق به والاستسلام للهزيمة، ومن دون عناء انتظار الرد تحاول مرّة أخرى، متى سيأتي؟ سؤالها الثاني الذي تتغيّر إجابته في كل مرّة: "اسألي بكره.. أو ارجعي كل يوم يمكن يكون جه".
رغم كل ما مرّ بها، خلال الأسبوع الماضي، في رحلة البحث عن كيلوغرام من السكر، قرّرت أمنية أن تضع حدًا له في يوم رأس السنة، فبدلًا من الاحتفال به ضمن طقوسها المعتادة في اجتماع عائلي مع فيلم كوميدي، أو سهرة غنائية، قضت الليلة تفتش عن "كيلو" سكر يضمن لها البقاء أسبوعًا كاملًا من دون عناء تحمّل والدها مرارة قهوته، ومن دون أن تضطر والدتها إلى اقتراض كوب من "السمّ الأبيض" من الجارة القريبة.
مشهد 2
"رغيف العيش سعره 35 قرشًا"، عُلقت الورقة في مدخل المخبز في آخر أيّام السنة، الأمر الذي دفع محمد، الشاب العشريني، العامل في أشهر عربات الفول في حي الجمالية، إلى أن يعود أدراجه بعدما قصد المخبز لشراء حاجته من "العيش" الطازج الخاص بإعداد "الساندويتشات". في ذلك الصباح عاد محمد بخفي حنين بدل سلة الخبر المملوءة؛ لم تزل في يده النقود التي أرسله بها معلّمه "العيش غلي يا حاج وصاحب الفرن بيقول السيسي رفع الدعم"، عبثًا ذهبت كل محاولات الرجل الستيني في عدم رفع الأسعار؛ رأفة بالغلابة؛ لكن هذه المرّة اشتدت عليه وطأة موجات الغلاء المتكرّرة، فعلق هو الآخر ورقته أعلى جدار العربة، "مفيش فول بجنيه.. والساندويتش بجنيه ونص".
مشهد 3
لليوم السادس على التوالي تحاول سارة إقناع والدتها بالذهاب إلى الكنيسة لحضور قدّاس الميلاد، ترفض الأم الخمسينية رفضًا قاطعًا؛ القدّاس السنوي الذي يحرص المسيحيون في مصر على حضوره، وتمتلئ بهم ساحات الكنائس، في طقس احتفالي بديع، يعتقد المسلمون في مصر أن انتهاءه على دقّات الثانية عشرة منتصف الليل، يمنح المسيحيين الحق في قُبلة احتفالية بين الشباب والفتيات. في مقابل ذلك، أضحى بعض أقباط مصر يعتقدون مؤخرًا، أن طقسهم السنوي أصبح مناسبة لصيدهم كالعصافير ببندقية "الإرهاب". "لن نذهب للكنيسة هذا العام في الميلاد.. بيتنا سيكون الكنيسة والرب سيؤمّنا بداخله".
تُنهي جانيت حديثها لابنتها العشرينية، التي تخشى من غضب والدتها إذا ما غافلتها وذهبت لحضور القدّاس مع أصدقائها: "احنا بقينا خايفين ندخل الكنيسة نصلي مانخرجش تاني"، تتذكّر سارة ما حدث لأمّها بعد أن علمت أن ابنة صديقة عمرها، كانت داخل الكنيسة البطرسية في لحظة التفجير، وأن شبابها لم يردع المجرم من أن يفعل فعلته في وضح النهار، وبحضور رجال الأمن داخل أكبر كنيسة في مصر، تستطرد: "كيف آمنُ عليك وعلى نفسي وإخوتك داخل كنيسة صغيرة في محافظة بعيدة بينما بيت الربّ الكبير تم تفجيره وسط العاصمة".
في المنيا تسكن سارة وعائلتها، وفي المحافظة التي يحتل الأقباط نسبة كبيرة من أهلها الأصليين، تسكن نيران الفتنة تحت رماد الصمت، في انتظار لعنة من يوقظها، وما أكثر اللعنات هذه الأيّام، "حتى الصلاة في بيت ربّنا منعونا منها خوفًا على حياتنا، فاضل إيه تاني نتمناه في السنة الجديدة غير إننا نسكن وطن تاني".