تدرس الولايات المتحدة إصدار "عملة رقمية" في خطوة لإنقاذ مكانة عملتها، الدولار، المهيمنة على النظام النقدي العالمي والتي باتت تتعرض لتحديات عديدة في السنوات الأخيرة، أحدثها إصدار الصين " لليوان الرقمي"، وتوجه أكثر من 12 مصرفاً مركزياً عالمياً لإصدار "عملات رقمية مشفرة"، وهو ما سيعني أن هذه الدول قد تتمكن في وقت لاحق من تخليص نظامها النقدي من قبضة العملة الأميركية، أو على الأقل تخفيف حدة الارتباط بالورقة الخضراء.
في هذا الشأن، قالت رئيسة مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) بمدينة سان فرانسيسكو بكاليفورنيا، لايل بيرنارد، إن مجلس الاحتياط الفيدرالي يدرس مشروعاً تجريبياً بشأن إصدار "الدولار الرقمي"، ولكنه لم يتخذ بعد قراراً حول تدشين العملة الرقمية.
وذكرت بيرنارد أن مجلس الاحتياط ليس في عجلة من أمره لإصدار "العملة المشفرة"، وأن أعضاء المجلس يأخذون وقتهم في تقييم التداعيات المترتبة على العملة الرقمية ويدرسون كذلك تجارب البنوك المركزية التي دشنت عملات رقمية. وكان أعضاء بمجلس الشيوخ قد اقترحوا في يونيو/ حزيران الماضي إصدار "الدولار الرقمي" لتسريع دفعات أموال التحفيز للأسر الأميركية، وكبديل لنظام الشيكات التقليدي الذي يأخذ وقتاً ويكلف وزارة الخزانة الأميركية أمولاً طائلة.
وحسب المسؤولة النقدية الأميركية بيرنارد، هنالك فريق عمل كونه مجلس الاحتياط الفيدرالي لدراسة تجربة "العملات الرقمية"، وأن الفريق يعكف على تقصي الحقائق الخاصة بالعملة الرقمية. من جانبها، حذرت مجموعة من الخبراء وأساتذة الاقتصاد في الجامعات الأميركية من المخاطر المترتبة على فشل الولايات المتحدة في إصدار "الدولار المشفر" على الهيمنة الأميركية على النظام النقدي العالمي.
وقالت المجموعة، التي يقودها رئيس هيئة بورصة الصفقات الآجلة للسلع السابق كريستوفر غيانكارلو، في ورقة بحثية، إن فشل الولايات المتحدة في إصدار عملة رقمية ستكون له تداعيات خطيرة على مكانة الدولار كـ"عملة احتياط دولية".
ووفق الورقة البحثية، فإن تخلف الولايات المتحدة عن ركب العملات الرقمية سيضعف ارتباط المصارف الغربية بالنظام المالي والاقتصادي الأميركي، كما سيهدد القوة الناعمة للولايات المتحدة.
والعملة الرقمية أو النقود الرقمية أو النقود الإلكترونية أو العملات الإلكترونية، نوع من العملات المتاحة فقط على شكل رقمي، وليس لها وجود مادي مثل الأوراق النقدية التقليدية والنقود المعدنية، ولها خصائص مماثلة للعملات النقدية، ولكنها تسمح بالمعاملات الفورية ونقل الملكية بلا حدود.
من جانبه، يرى مصرف "جي بي مورغان"، أكبر المصارف الأميركية، أن "استثماراً متواضعاً في العملة الرقمية سيساهم في المحافظة على هيمنة الدولار على النظام النقدي العالمي لسنوات عديدة مقبلة".
وأضاف المصرف، في دراسة بهذا الشأن، أن الولايات المتحدة تنعم حالياً بمكانة مميزة في العالم بسبب مكانة الدولار كعملة احتياط رئيسية بالبنوك المركزية، ولكن مع تقدم المصارف المركزية العالمية في إصدار العملات الرقمية، وتحديداً في الصين ودول الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية، فإن هيمنة الدولار ستواجه تحديات.
وقال كل من خبير المشتقات وأسعار الفائدة بمصرف "جي بي مورغان" جوش يونغر، وزميله كبير الاقتصاديين بالبنك مايكل فيرولي، في تقرير مشترك، إن "الولايات المتحدة ستكون أكبر الخاسرين من إصدار العملات المشفرة العالمية، لأن هذه العملات ستصبح وسيطا في تسويات صفقات تجارة السلع والخدمات".
وهذه التسوية يهيمن عليها الدولار حالياً وتعتمد عليها الولايات المتحدة في تحديد أسعار العديد من المنتجات والسلع المسعرة بالدولار. وحسب التقرير، فإن إصدار العملات الرقمية في اقتصادات كبرى مثل الصين سيفقد الولايات المتحدة القدرة على مراقبة الصفقات المالية التي تتم عبر نظام "سويفت" للتحويلات المالية الذي تستخدمه تقريباً معظم المصارف العالمية.
يذكر أن حصة الدولار في احتياطات العملة الصعبة بالبنوك المركزية تقدر بنحو 63%، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، كما أن الدولار يسيطر على نحو 80% من صفقات التسويات التجارية لسلع رئيسية، من بينها النفط والذهب والمعادن الرئيسية. ويعد الدولار "العملة الحاملة للتجارة" في أسواق الصرف العالمية التي يقدر حجمها بنحو 6 تريليونات دولار.
وأعلنت دول الاتحاد الأوروبي في وقت سابق، أنها تتجه لإصدار "اليورو المشفر"، وفقاً لخطة قدمتها الحكومة الفرنسية. وفي حال نجاح الخطة، فإن الكتلة الأوروبية ستكون خارج نطاق الهيمنة المالية والاقتصادية الأميركية، وتلقائياً لن تتمكن الولايات المتحدة من تقييد شركاتها ودولها بقوانين الحظر الأميركي.
وكانت المفوضية الأوروبية قد سعت خلال العام 2018 لتجاوز الحظر الأميركي على إيران عبر تبني "آلية مالية" للتجارة مع طهران، ولكنها فشلت في ذلك بسبب الضغوط الأميركية على شركاتها. ومن بين المخاطر الرئيسية للعملات المشفرة على هيمنة الولايات المتحدة، أنها تمكن الدول والشركات من تجاوز "نظام سويفت" للتحويلات المالية. وعلى الرغم من أن إدارة هذا النظام توجد في بروكسل ببلجيكا ولكنه عملياً يخضع للسيطرة والرقابة الأميركية.
وكان الدولار قد تعرض لمجموعة من الهزات خلال الأشهر الأخيرة بسبب توسع الولايات المتحدة في طباعة الكتلة النقدية الدولارية ضمن خطط التحفيز المالي التي نفذها مصرف الاحتياط الفيدرالي الأميركي لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من الكساد. وارتفع اليورو مستفيداً من ضعف الدولار. ويعد اليورو من أكثر العملات المنافسة للدولار في الاحتياطات العالمية، إذ تفوق حصته 20%.