أميركا ومصر الثورة
لمّا كانت مصر تمورُ على لهيب الثورة، استنفرت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما طاقتها، لإقناع الشعب المصري بالوقوف إلى جانب الرئيس، حسني مبارك، حتى بعدما بات في حكم المؤكّد أنّ نظامه آيلٌ إلى السقوط. أما الرأي العام في أميركا فقد ندد بقول نائب الرئيس، جو بايدن، إنّ مبارك ليس ديكتاتوراً. واستنكر تصريح المبعوث الأميركي إلى مصر، فرانك ويزنر، إنّ بقاء مبارك في منصبه صمام أمان للمنطقة. وأيدت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، موفدها، واقترحت فترة انتقالية تمكّن مبارك من البقاء في السلطة شهوراً. وعندما تزايد تنديد الرأي العام الأميركي بدعمها العلنيل مبارك، ورفع المتظاهرون لافتات كُتب عليها "عار عليك أوباما"، سارعت إدارة أوباما إلى إعلان أنّ تصريحات فرانك ويزنر تعبّر عن موقفه الشخصي. ولكن، بدا أن الفتق اتسع على الراتق، ولم يُجدِ تبرير الإدارة نفعاً، ووجد المنقبّون عن خبايا المواقف أنّ الدبلوماسي المتقاعد يعمل لدى شركة استشارات قانونية، تقدّم خدماتها للجيش وللحكومة المصريين. وتنكّبت الإدارة الأميركية إثر ذلك شرّ وِزرين، أولهما تخييبها آمال الشعب المصري وأحلامه، بركلها خطابها ومبادئها عن الحرية والديمقراطية. والثاني وقوعها في خطيئة التضارب في المصالح الذي يُعدُّ وفقاً للعقيدة الأخلاقية للرأي العام الأميركي بمثابة ردّة وطنية.
ذلك التناقض لدى إدارة أوباما بشأن مصر نابع من إصراره على أن يضع نفسه في منطقة وسطى بين المثالية والواقعية، إلّا أنّ تيار الواقعية جرفه، وظلت هذه علامته المميزة في السياسة الخارجية. وهو كما وصفه فريد زكريا، في مجلة نيوزويك، واقعيٌّ بمزاجه، غير أنّه ركّز أكثر من أي رئيس، منذ ريتشارد نيكسون، على تحديد المصالح الأميركية بعناية، وتوفير الموارد اللازمة لتحقيقها.
وواقعية الإدارة الأميركية هي ما جعلتها تحتمل حكم مبارك 30 عاماً، بينما أدت إلى فقدان الثقة في أميركا ومبادئها الديمقراطية. أيّد أوباما مبارك بحديثه إنّ الأخير يحتاج أميركا، ثم عندما دارت الدائرة عليه، وجرفه تيار الثورة، ما كان في وسع أوباما أن يواصل دعمه له أمام جحافل الثوّار، فتخلّى عن حليف أميركا لأكثر من ربع قرن.
تزداد الحاجة لقراءة مواقف أوباما في أثناء ثورة مصر الخالدة، فبعد ساعات من الانقلاب في 3 يوليو/ تموز، أعرب عن قلقه العميق من إطاحة أول زعيم في مصر منتخب ديمقراطيّاً، وأكد دعم واشنطن العملية الديمقراطية واحترام سيادة القانون، وأصدر تعليماته لوزارة الخارجية إلى إعادة تقييم أكثر من مليار دولار من المساعدات المخصصة لمصر. وكان أوباما، في تلك اللحظة، يخاطب الشعب الأميركي الذي لو رأى أي موقف مخالف ما يُتوقع منه سيكون عليه أن يتحسس مبادئ الديمقراطية في معقلها.
واضحٌ أنّ نهج الديبلوماسية الأميركية الذي تتضارب فيه المواقف هو نتاج انحدار مستوى اتخاذ مواقف متكلّفة أمام الجمهور السياسي الأميركي. وهذه يتم فيها إيلاء الاهتمام الأكبر للسياسيين بشكل أكثر من الرأي العام. ولعلّ أعمق تحليل لهذا النهج جاء به الديبلوماسي والمفكّر الأميركي، جورج. ف. كينان، في كتابه "الدبلوماسية الأميركية" منذ الثمانينات، فقد أوضح أنّ هذه المواقف والقرارات الخارجية قد ترجع، في بعضها، إلى طبيعة القاعدة الجماهيرية التي توجه رجال الحكم في أميركا، والتي تتكون، على الأرجح، من أقليات، أو قوى ضغط، تتسم بالحنق والصخب. وهذه غالباً ما تكون، لسبب عصي على الفهم، مشابهة، إلى حدٍّ كبير، للطرف ذي النزعة العسكرية. وقد تتعمّد الضرب على أجراس التعصب الوطني لتحقيق أهدافها الحزبية، ما يجعل الحكومة الأميركية ضعيفة أمام هذا النمط من الاستفزاز، بسبب خشيتها من أن تجد نفسها في مواقع الدفاع أمام اتهامها بالافتقار للوطنية.
عندما قامت الثورة، ومهرها الشهداء بدمائهم، كان أكثر ما يثير حيرة الإعلام الغربي رفض جموع الشباب مغادرة ميدان التحرير، عقب سقوط مبارك. وما لم يتم إدراكه، وقتها، أنّ مطلبهم هو اجتثاث النظام السابق من جذوره، لأنّهم، وفق الحكمة المتواردة، قد حرّروا الحرية، وكانوا في انتظار قيام الحرية بالباقي. فلم يكن الهدف مبارك وابنيه فقط، وإنّما مؤسسات الدولة العميقة التي سقط مبارك مطمئناً إلى أنّها ستُنبت ألف رأسٍ قمعي، ففعلت عندما قلبت النظام الديمقراطي، وسيّدت العسس ليحسبوا الأنفاس.